في أغسطس 2025 بلغت مديونيات هيئة الشراء الموحد مستويات غير مسبوقة، تجاوزت 43 مليار جنيه (نحو 891 مليون دولار) مما ألقى بظلال قاتمة على قدرة المستشفيات العامة على توفير الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية للمواطنين.
هذه الأرقام ليست مجرد أرقام حسابية، بل مؤشر على انهيار منظومة إدارة المشتريات التي باتت تضع ملايين المرضى في مواجهة نقص دواء محتمل.
ما الذي تراكم فيه الدين؟
من بين 43 مليار جنيه، تُظهر بيانات القطاع أن حوالى 23 مليار جنيه منها مستحقة لشركات الأدوية وقطاع المستلزمات الطبية، بينما المتبقي يخص موردين محليين وخطوط ائتمان دولية مرتبطة باستيراد الخامات.
تراكم هذه المستحقات أدى إلى شكاوى رسمية من مصانع وموزعين تسبب في توقف خطوط إنتاج وعدد من الموردين صرّحوا بعجزهم عن سداد التزاماتهم البنكية نتيجة نقص السيولة.
أطلق اتحاد الغرف التجارية تحذيراً بأن تأخر صرف المستحقات يعيق توريد الدواء ويعرض شركات التوزيع لصعوبات مالية كبيرة، مما يؤثر بشكل مباشر على استقرار السوق الدوائي في مصر.
الأسباب المباشرة لتصاعد المديونيات
أسبابه متعددة ومتشابكة:
أولاً: تقلبات سعر صرف الجنيه أمام الدولار رفعت كلفة استيراد المواد الخام للمستحضرات والمستلزمات، وفروقات الأسعار لم تُعوَّض للموردين.
ثانياً: تعثر الاعتمادات والتمويل من وزارة المالية جعل الهيئة تؤجل دفعات لشهور متتالية.
ثالثاً: خلل إداري في نظام الشراء المركزي، حيث اعتمدت الهيئة نماذج تقليدية ووعود سداد لم تُنفَّذ مما أدى لتآكل ثقة الموردين.
رابعاً: توسع دور الهيئة المركزي بشكل أسرع من قدراتها المالية والتنظيمية، ما خلق فجوة بين التزامات الشراء وقدرة الصرف.
في سبتمبر 2025 أمر قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي بإعادة تشكيل منظومة شراء الأدوية، في محاولة لإدارة أزمة الإمداد والديون بعد ارتفاع حدة الانتقادات.
وفي لقاءات حكومية لاحقة أكد رئيس حكومة الانقلاب ووزير ماليته ضرورة توفير الاعتمادات المالية وسدّ مستحقات الموردين، بينما طالب ممثلو شعبة المستلزمات الطبية والرابطة القطاعية بتدخل رئاسي عاجل لسداد 43 مليار جنيه حتى لا تتوقف خطوط الإنتاج.
هذه التصريحات الرسمية تعترف ضمنياً بوجود أزمة منهجية وليست مجرد مشكلات عرضية.
لماذا زادت المديونيات في السنوات الأخيرة؟
تزايدت المديونيات لعدة أسباب منها:
- اتساع الإنفاق العام على مشاريع ذات أولوية أمنية وعسكرية أدى لتقليص سيولة دعم خدمات مدنية.
- ارتفاع فاتورة الاستيراد بعد انهيار قيمة الجنيه.
- اعتماد هيكلي على تقنيات تمويل قصيرة المدى بدل إصلاحات هيكلية في سلاسل التوريد.
- غياب رقابة محاسبية فعالة على عقود الشراء المركزي.
- سياسات التسعير والدعم الحكومية لم تُعدَّل لمواجهة التضخم الحقيقي في كلفة الإنتاج، ما خلق فجوة دائمة بين تكلفة المورد وسعر البيع أو التعويض الحكومي.
هل كل الوزارات والهيئات أصبحت مديونة في عهد السيسي؟
ظاهرة المديونيات لا تقتصر فقط على هيئة الشراء الموحد، بل تشمل عدة وزارات وجهات حكومية أخرى، حيث ارتفعت مديونيات الدولة بشكل عام إلى مستويات غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة.
هذا التراكم يعكس أزمات في إدارة المالية العامة والحسابات الحكومية، إلى جانب الضغوط الاقتصادية التي جلبتها سياسات التقشف، والتباطؤ الاقتصادي العالمي، والالتزامات المالية للإنفاق العسكري.
تراكم المديونيات في قطاع الصحة ليس حالة منعزلة، فتقارير أخرى تشير إلى تأخر سداد التزامات لشركات السكك الحديدية والمجالس المحلية وشركات الطاقة تشير إلى نمط أوسع لتأخر الدولة في سداد المستحقات، وهو ما يعكس ضغطاً على الخزينة العامة ومحدودية انضباط المالي العام.
هذا النمط يتوافق مع توجهات الإنفاق التي أولت أولوية للمشروعات الكبرى والأمنية مقابل الخدمات الأساسية، ما أدّى إلى تراكم التزامات متراكمة على مختلف الجهات.
هل يدل هذا على فشل منظومة السيسي العسكرية؟
عند النظر إلى الأولويات الإنفاقية وتحول قطاعات استراتيجية إلى إدارة مركزية ذات طابع شبه عسكري، يظهر أن النموذج الإداري والاقتصادي الراهن فشل في تحقيق مرونة مالية وحماية للخدمات المدنية.
عندما تُقدّم الموارد المالية لمشروعات كبيرة أو للأمن على حساب الإمدادات الطبية الأساسية، فهذا مؤشر على اختلال أولويات.
فإذا كانت المنظومة الأمنية العسكرية قادرة على حماية الدولة، فالأساس الاجتماعي؛ الصحة والحياة اليومية للمواطن، لم يعد محميّاً بنفس الدرجة.
إذن، أزمة 43 مليار جنيه تكشف فشلاً في توازن إدارة الدولة بين الأمن والرفاه، وتُثير سؤالاً جوهرياً حول شرعية وسياسات النظام في إدارة موارد البلد.
مخاطرة تتخطى الحسابات المالية
مديونية الهيئة ليست مجرد مشكلة ميزانية بل تهديد مباشر لصحة الملايين، إن استمرار تأجيل سداد المستحقات وغياب إصلاحات فورية في نظم الشراء والتمويل سيجعل الأزمات أعمق منها نقص أدوية، توقف خطوط إنتاج محلية، وتضخم مشاكل البنوك والموردين.