تشهد سيناء في الآونة الأخيرة تموضعًا جديدًا عند تقاطع حساس بين اعتبارات الأمن القومي المصري بعد حرب غزة، وتصاعد القلق الإسرائيلي من تبدل موازين القوة والانتشار العسكري في شبه الجزيرة.
ففي حين ترى القاهرة أن تعزيز وجودها شرق قناة السويس يمثل ضرورة دفاعية لمواجهة الإرهاب وعمليات التهريب، تعتبر تل أبيب هذا التحرك انتهاكًا لترتيبات الملحق الأمني لاتفاقية كامب ديفيد.
وفي الخلفية، تلقي تداعيات حرب البحر الأحمر بظلالها على حركة الملاحة، بينما تعيد مناورة "النجم الساطع 2025" التي ترعاها واشنطن والقاهرة، رسم خريطة التحالفات الإقليمية. وبينما تصر مصر على شرعية نشر قواتها ضمن آليات الاتفاق، تتحرك إسرائيل عبر قنواتها في واشنطن لإيصال رسائل مضادة، في مشهد يعكس تصاعد لعبة التوازنات والرسائل المتبادلة.
ضغوط إسرائيلية على واشنطن
في تطور يعكس تصاعد التوترات حول ترتيبات اتفاق كامب ديفيد، كشف تقرير أميركي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب من الإدارة الأميركية التدخل للضغط على القاهرة، بزعم ارتكاب "انتهاكات جوهرية" للملحق الأمني للاتفاق الموقع عام 1979.
وبحسب ما نشره موقع "أكسيوس" في 20 سبتمبر، نقلًا عن مسؤولين أميركيين وإسرائيليين، فإن نتنياهو قدّم لوزير الخارجية مارك روبيو قائمة بالأنشطة العسكرية المصرية في سيناء، واعتبرها تجاوزًا صريحًا لبنود الاتفاق، في خطوة تعكس قلقًا إسرائيليًا متزايدًا من تغير معادلات الانتشار العسكري في المنطقة.
الرد المصري جاء سريعًا، إذ أكدت الهيئة العامة للاستعلامات، في بيان رسمي بتاريخ 21 سبتمبر، أن انتشار القوات المصرية في سيناء يندرج ضمن جهود تأمين الحدود، ويجري بالتنسيق المسبق مع الأطراف المعنية بالسلام، في إشارة ضمنية إلى التزام القاهرة بالآليات القانونية للاتفاق.
لكن في تل أبيب، يرى مسؤولون أن حجم الانتشار المصري تجاوز ما تم التفاهم عليه خلال العام الأخير، ما يثير مخاوف من إعادة تشكيل الواقع الأمني في شبه الجزيرة، خاصة في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة بعد حرب غزة، وتداعيات النزاع في البحر الأحمر.
هذا التحرك الإسرائيلي نحو واشنطن لا ينفصل عن سياق أوسع من الرسائل المتبادلة، حيث تسعى تل أبيب إلى تحجيم الدور المصري المتنامي في سيناء، بينما تصر القاهرة على أن أمنها الحدودي لا يخضع للمساومة، بل يستند إلى حق سيادي مؤطر باتفاق دولي.
تقسيم سيناء
وينص الملف الأمني لاتفاق السلام المصري الإسرائيلي على تقسيم سيناء إلى 3 مناطق:
- منطقة أ قرب قناة السويس ويسمح فيها بانتشار فرقة عسكرية كاملة.
- منطقة ب، حيث يُسمح فقط بحرس حدود بأسلحة خفيفة.
- منطقة ج الملاصقة للحدود وتُعتبر منزوعة السلاح، ولا يُسمح فيها سوى بوجود شرطة مسلحة بأسلحة فردية.
وتُظهر المؤشرات الميدانية أن القاهرة رفعت منذ مطلع 2024 مستوى الجاهزية والتجهيز على خطوط تماس رفح الشيخ زويد وشمال شرق سيناء، ضمن مسعى مزدوج يرمي إلى سد ثغرات التهريب ومواجهة بقايا "الخلايا الإرهابية"، ومنع أي تدفق قسري للسكان من غزة.
وقد أفادت تقارير بأن الجيش المصري عزز وجوده بتشكيلات مدرعة وآليات نقل جند قُبيل توسع العمليات الإسرائيلية في رفح، بينما وثقت صور أقمار اصطناعية أعمال تسوية وبناء أسوار ومنطقة عازلة عريضة على خط الحدود.
وكانت صور أقمار اصطناعية قد أظهرت، بحسب ما أوردت شبكة "سي إن إن" (CNN) في 6 فبراير 2024، أن "مصر تبني منطقة عازلة بعرض يتجاوز الميلين مع جدار قرب رفح". ونقل تقرير لرويترز عن مصادر عسكرية مصرية في 10 فبراير أن "الجيش المصري نشر نحو 40 دبابة وناقلة جند قرب حدود غزة".
سيناء تتحول إلى بؤرة توتر إقليمي
يتصاعد القلق الإسرائيلي من التحركات العسكرية المصرية في سيناء، وسط اتهامات بأن القاهرة تجاوزت بنود الملحق الأمني لاتفاقية كامب ديفيد، وفرضت واقعًا جديدًا على الأرض. ففي تصريحات نقلها موقع "أكسيوس"، وصف مسؤول إسرائيلي ما يجري بأنه "خطير جدًا"، مشيرًا إلى أن التوسع المصري يشمل إنشاء بنى تحتية قد تُستخدم لأغراض هجومية، وهو ما يثير مخاوف أمنية متزايدة داخل تل أبيب.
وفي السياق ذاته، أفادت القناة 12 الإسرائيلية بأن مسؤولين رفيعي المستوى يعتبرون التعزيزات المصرية "نقطة توتر رئيسية إضافية"، مؤكدين أن الاتصالات المباشرة مع القاهرة لم تسفر عن تقدم، ما دفع إسرائيل إلى نقل الملف إلى واشنطن، في محاولة لتفعيل الضغط الدبلوماسي.
التحذيرات لم تقتصر على الدوائر الرسمية، إذ عبّر السفير الإسرائيلي السابق لدى مصر، ديفيد جوفرين، في مقال بصحيفة "معاريف" بتاريخ 23 سبتمبر، عن قلقه من "تآكل تدريجي" للملحق الأمني، مشيرًا إلى أن مصر تستغل التطورات الإقليمية، خاصة في غزة، لتعزيز وجودها العسكري في سيناء، بما يتجاوز ما كان متفقًا عليه.
جوفرين أشار إلى أن مسؤولين مصريين، التقاهم خلال فترة عمله في القاهرة، عبّروا عن قناعة بأن الوقت قد حان لإلغاء القيود العسكرية المفروضة على سيناء، وهو موقف تكرر على لسان ضباط كبار، بمن فيهم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، ما يعكس تحولًا في الرؤية المصرية تجاه ترتيبات ما بعد كامب ديفيد.
هذا التصعيد في الخطاب الإسرائيلي يعكس خشية من إعادة تعريف التوازنات الأمنية في شبه الجزيرة، في ظل تغيرات إقليمية متسارعة، وتراجع قدرة تل أبيب على فرض خطوط حمراء واضحة في محيطها الجغرافي.
توتر دبلوماسي متصاعد
في ظل تصاعد التوتر حول سيناء وترتيبات كامب ديفيد، جاءت تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن "إسرائيل الكبرى" لتضيف بعدًا سياسيًا أكثر استفزازًا، ما دفع القاهرة إلى إدانة التصريحات والمطالبة بإيضاحات رسمية، معتبرة أنها تمس الثوابت الإقليمية وتغذي خطابًا توسعيًا مرفوضًا.
وسبق لمصر أن أعربت عن استهجانها الشديد لتلميحات نتنياهو بشأن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة عبر معبر رفح، حيث أكدت وزارة الخارجية في بيان رسمي أن أي دعوة أو تلميح لتهجير الفلسطينيين، سواء قسرًا أو طوعًا، يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، ويرقى إلى مستوى جرائم التطهير العرقي وفقًا لاتفاقيات جنيف.
في هذا السياق، يبرز الجمود الدبلوماسي بين الطرفين، إذ لم تعتمد القاهرة حتى الآن السفير الإسرائيلي الجديد، بينما لا يوجد سفير مصري في تل أبيب، وهو ما اعتبره مراقبون مؤشرًا على فتور العلاقات، وربما إعادة تقييم لمستوى التمثيل السياسي في ظل التصعيد المستمر.
معاهدة السلام تحت الضغط
لا تخفي القاهرة قلقها المتزايد من تداعيات الحرب المستمرة في غزة، والاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، التي باتت تمس الأمن القومي المصري بشكل مباشر، وتلقي بظلالها على مستقبل معاهدة السلام بين البلدين.
وفي خطاب حاد اللهجة خلال القمة العربية الإسلامية في الدوحة، حذر قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي من أن ما يحدث "يعيق فرص السلام، ويهدد أمن شعوب المنطقة، ويضيف عقبات أمام أي اتفاقيات سلام جديدة، بل ويُبطل القائمة منها"، في إشارة واضحة إلى أن استمرار التصعيد الإسرائيلي قد ينسف أسس التسوية القائمة.
كما رفضت مصر مقترحات إسرائيلية تتعلق ببقاء قوات على الحدود مع غزة، مؤكدة في بيان رسمي بتاريخ 18 سبتمبر 2024 أن "مصر لن تقبل بأي تغييرات في الترتيبات الأمنية التي كانت قائمة قبل الحرب"، في موقف يعكس تمسكًا مصريًا بالخطوط الحمراء الأمنية والسيادية.
وفي قراءة إسرائيلية لهذا التصعيد، توقف السفير السابق لدى القاهرة، ديفيد جوفرين، عند خطاب السيسي الأخير، معتبرًا وصف إسرائيل بـ"العدو" سابقة منذ توقيع اتفاقية السلام، ودليلًا على غضب مصري متراكم، سواء بسبب ما وصفه بـ"حرب الإبادة في غزة"، أو بسبب تجميد إسرائيل صفقة غاز ضخمة بقيمة 35 مليار دولار.
ويرى جوفرين أن التصعيد الإسرائيلي في غزة، إلى جانب مخاوف القاهرة من تدفق اللاجئين، دفع الأخيرة إلى تعزيز وجودها العسكري في رفح، وهو ما قد يشكل نقطة تحول استراتيجية في ميزان القوى داخل سيناء، ويعيد رسم حدود الدور المصري في المعادلة الأمنية الإقليمية.
سيناء بين التوسع المصري والقلق الإسرائيلي
يحذر مراقبون إسرائيليون من أن استمرار التحركات العسكرية المصرية في سيناء قد يفتح الباب أمام واقع جديد، تتوسع فيه القاهرة في نشر قواتها وتثبيت بنيتها الدفاعية، حتى بعد انتهاء الحرب في غزة. هذا التوسع، وفقًا لتقديرات إسرائيلية، يشكل تآكلًا تدريجيًا للملحق الأمني لاتفاقية كامب ديفيد، ويعيد رسم حدود الدور المصري في شبه الجزيرة.
السفير الإسرائيلي السابق لدى القاهرة، ديفيد جوفرين، يرى أن إسرائيل باتت عاجزة عن الاعتماد على القوة متعددة الجنسيات في سيناء أو حتى على الولايات المتحدة للضغط على مصر من أجل العودة إلى القيود السابقة، ما يضع تل أبيب أمام معادلة أمنية جديدة: جيش مصري أكثر انتشارًا وقوة على حدودها الجنوبية.
في هذا السياق، يرجّح خبراء أن تواصل إسرائيل تصعيد أدواتها الدبلوماسية، عبر تكثيف المراقبة الدولية، وتوسيع دائرة الاتصالات مع واشنطن وعواصم أوروبية، بهدف وقف ما تصفه بـ"الانتهاكات الجوهرية" للترتيبات الأمنية في سيناء.
وفي تحذير لافت، اعتبر جوفرين أن البديل عن "الريفيرا الفلسطينية" في غزة قد يكون مواجهة عسكرية جديدة مع مصر، في إشارة إلى أن استمرار التآكل في الملحق الأمني قد يعيد شبح الصدام بين الجانبين، ويقوض أحد أبرز إنجازات إسرائيل الاستراتيجية منذ توقيع اتفاقية السلام قبل أكثر من أربعة عقود.
شراكة عسكرية متنامية
في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، برز التعاون العسكري بين القاهرة وبكين كعامل جديد يعيد تشكيل المعادلة الأمنية في شبه جزيرة سيناء. فالتقارب بين البلدين تجاوز الطابع الرمزي، ليأخذ شكلًا عمليًا يشمل أنظمة دفاع جوي متقدمة ومناورات مشتركة تغطي جغرافيا المنطقة الحدودية.
وبحسب ما نقلته "العرب الأسبوعية" عن مصادر عسكرية، عززت مصر دفاعاتها الجوية في سيناء بنشر منظومات HQ-9B الصينية، في خطوة تعكس استعدادًا مصريًا لمواجهة أي تهديد محتمل وسط تصاعد التوتر الإقليمي.
هذا التعاون أثار قلقًا في تل أبيب، حيث نقلت صحيفة "يسرائيل هيوم" عن مصادر أمنية إسرائيلية انزعاجها من الاجتماعات التي جمعت مسؤولين مصريين وصينيين رفيعي المستوى في يوليو الماضي، والتي تناولت صفقات أسلحة متطورة تشمل سفنًا حربية وأنظمة دفاع جوي، ما اعتبرته إسرائيل مؤشرًا على تحول نوعي في القدرات العسكرية المصرية.
وفي أبريل الماضي، اعتبرت هيئة البث الإسرائيلية أن مناورات "نسور الحضارة 2025" تمثل أول تدريب جوي مشترك موسع بين مصر والصين قرب الحدود، بمشاركة مقاتلات إنذار مبكر وطائرات هجومية، وهو ما وصفه مراقبون بأنه تحول استراتيجي في موقع مصر العسكري، وتأكيد على تنويع شراكاتها الدفاعية بعيدًا عن المحور الأميركي التقليدي.
ورغم أن "نسور الحضارة" تُعد أول مناورة جوية بهذا الحجم بين البلدين، إلا أن التعاون البحري سبقها عبر تدريبات عابرة غير مجدولة، ما يعكس نمطًا متكررًا من التنسيق العسكري المرن بين القاهرة وبكين، ويعزز فرضية أن مصر تسعى لتثبيت حضورها العسكري في سيناء ضمن شبكة تحالفات أوسع، تتجاوز الإطار الغربي التقليدي.