مع بداية كل عام دراسي تتكرر صور وفيديوهات تَظهِر طلابًا في "زيّ الشرطة المدرسية" ينظمون الطابور أو يوجّهون زملاءهم، بينما تعلن الوزارة عن تشديد أنظمة الغياب وتفعيل الرقابة الإلكترونية.

تبدو هذه الإجراءات خارجيّاً كاستراتيجيات لضبط الانضباط، لكنها في التحليل العميق انعكاس لهجرة المشكلة الحقيقية -تدهور جودة التعليم وانهيار الخدمات- نحو حلول بوليسية وإدارية سطحية تحت غطاء "التحوّل الرقمي".
 

نشوء الظاهرة وتكرارها.. "تريند سنوي"
انتشار صور وفيديوهات الشرطة المدرسية على منصات التواصل تحول إلى مُنعطف إعلامي كل بداية عام دراسي، ويُعاد تداولها سنوياً كمادة للنقاش والسخرية والغضب الشعبي.

تغطي هذه الصور على أنظمة معيبة: فبدل مواجهة نقص المعلمين، الكثافات العالية، وفشل المناهج في تحقيق اكتساب حقيقي للطلاب، تُستَبدل المشكلة بأشكال من الرقابة الصارمة داخل المدرسة.

ردة الفعل الشعبية والإعلامية تُظهر أن الكثير من المواطنين يفسّرون هذه المبادرات كإزاحة للمسؤولية الحكومية عن معالجة أسباب الفشل.
 

الغياب الإلكتروني: ضبط أم مراقبة مفرطة؟
منذ صيف وشتاء 2024 أصدرت وزارة التربية توجيهات متكررة تشدّد على تسجيل الغياب إلكترونيًا وإخطار أولياء الأمور، مع تطبيق ضوابط صارمة على نسبة الحضور (المطلوبة قانونًا تصل عادة إلى 85% كحد أدنى في بعض التوجيهات).

الفكرة التقنية -قاعدة بيانات مركزية للحضور- قد تبدو مفيدة لكن تطبيقها في ظل بيئة مدرسية منهكة يطرح سؤالًا بسيطًا: هل سيُعالج هذا النظام جذور انخفاض الحضور (فقر، عمل أطفال، نقل صعب، مناهج فاشلة) أم أنه أداة جديدة للعقاب الإداري والضغط على المدارس والمعلمين.
 

فيديوهات ومواد مرئية عن «الشرطة المدرسية»

 

آثار نفسية وتربوية.. تحذيرات المختصين
أطباء نفسيون وخبراء تربويون حذروا من أن وجود "زيّ شرطي" داخل المدرسة قد يولّد مشاعر الخوف والرهبة لدى التلاميذ ويحوّل المدرسة من بيئة تعلم إلى بيئة تأديب.

تحليلون تربويون يؤكدون أن الانضباط القسري لا يبني مواطناً واعياً بالواجبات، بل ينتج سلوكًا ظاهريًا خوفياً دون تَبنٍّ لقيم التعليم والمعرفة، هذه الملاحظات ظهرت في تقارير وتعليقات محلية متداولة مؤخراً.
 

سياسات الدولة.. الأمن بدل التنمية
من المؤسف أن خطاب أعلى مستويات الحكم ركّز في السنوات الأخيرة على دور الأمن والشرطة كقيمة مركزية، خطاب ترجمه البعض إلى أولوية الموارد للأجهزة الأمنية على حساب الخدمات الأساسية.
ففي تصريحات رئاسية ووزارية متكررة جسّدها التركيز الإعلامي على دور الأمن في "حماية الوطن" تُبرر الدولة إجراءات أمنية حتى في الفضاءات التعليمية.

هذه الأولويات تنعكس في استثمارات أقل في تأهيل المدرسين، خفض الكثافات، وتحديث المناهج.

النتيجة: حلول شكلية مثل "الشرطة المدرسية" وأنظمة الغياب الإلكترونية بدل الاستثمارات الحقيقية في التعليم.
 

ما الذي يمكن إثباته؟
توجيهات رسمية صدرت خلال صيف وخريف 2024 تؤكد على تسجيل الغياب إلكترونيا وإخطار أولياء الأمور وإجراءات انضباطية للغياب المفرط.

نسبة الحضور التي تُطرح كحد أدنى في توجيهات سابقة تُقدّر بحوالي 85%، ومعها تهديد باتخاذ إجراءات قانونية ضد من يتجاوز النسب، هذا يضع ضغطًا إداريًا على المدارس بدلاً من معالجة أسباب التغيب.
 

السبب الحقيقي ..فشل مركّب لا تُعالجه صور الطابور
الأسباب الحقيقية وراء الغياب والانضباط الضعيف تتعدى الحاجة إلى تسجيل إلكتروني أو تنظيم طابور؛ ضعف أجور المعلمين، تكدس الفصول، تقليل الإنفاق العام على التعليم، غياب خطط فعلية للتعلّم النشط، ومشكلات اجتماعية واقتصادية (فقر، عمل أطفال، مشكلات نقل).

كل هذه عناصر تؤدي إلى انخفاض جودة التعليم وحضور الطلاب؛ تحويل المشكلة إلى مظهر أمني يُسوّغ سياسات قمعية ويغطي على قصور حقيقي في الإدارة العامة.

 

توصيات.. ماذا ينبغي أن تُقدّم الحكومة فعلاً؟

  1. رفع الإنفاق على التعليم والاهتمام بتدريب المعلمين بدلاً من استثمار المزيد في مظاهر الضبط.
  2. خطة وطنية لخفض الكثافات أرقام ملموسة ومهل زمنية.
  3. برامج دعم اجتماعي لأُسر الفقراء لمنع ترك الأطفال المدرسة للعمل.
  4. تحويل أنظمة الحضور إلى أداة دعم كتنبيه مبكر ومتابعة اجتماعية لا إلى أداة فصل وعقاب.
  5. مشاركة مجتمعية ومساءلة حقيقية بدل فرض أشكال بديلة من التحكم الأمني داخل المدارس.

 

من المدرسة كمساحة للتعلم إلى المدرسة كمنصة للسيطرة
نهايةً، تُظهِر ظاهرة "الشرطة المدرسية" وتوسّع الغياب الإلكتروني كيف أن الدولة تفضّل حلول "الظهور والنظام" على إصلاحات جوهرية.

عندما يصبح الهدف أن يبدو النظام مُنظَّماً بدل أن يكون فعّالاً فعلاً في بناء قدرات الأجيال، تكون الخسارة الأكبر للمجتمع كله، لأن المدرسة ليست ساحة عرض لِقِيَم السلطة، بل مصنع للمواطنين والمعرفة.