وقف عبد الفتاح السيسي في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الرواندي متحدثًا عن “الانفتاح على التعاون مع دول حوض النيل، بعيدًا عن منطق الهيمنة أو الإضرار بمصالح أي طرف”.
كلمات تبدو رنانة أمام الكاميرات، لكنها على أرض الواقع لا تحمل سوى صورة زائفة؛ فالمياه ما زالت محجوزة خلف السد الإثيوبي، والحقوق المائية لمصر تُستنزف عامًا بعد عام في ظل سياسة التصريحات دون أفعال.
 

وعود متكررة بلا إنجاز
منذ بداية أزمة سد النهضة عام 2011، والنظام المصري يكتفي بخطابات التهدئة والوعود بالتوصل إلى حلول عبر المفاوضات.

لكن رغم مرور أكثر من عقد، لم تُحقق مصر أي مكسب ملموس، بل على العكس، مضت إثيوبيا منفردة في عمليات البناء والتخزين حتى وصلت إلى الملء الخامس في 2025، فيما اكتفت القاهرة بإصدار بيانات دبلوماسية متكررة لا تُعيد قطرة ماء واحدة إلى مجرى النيل.
 

حجز المياه أمام السد.. حقائق مُرّة
الواقع اليوم يقول إن بحيرة السد الإثيوبي تحجز عشرات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه، وهي الحصة التي كانت تصل إلى مصر والسودان.
تقارير خبراء المياه تشير إلى أن النقص السنوي في حصة مصر بات يتراوح بين 5 و7 مليارات متر مكعب، ما انعكس مباشرة على الزراعة، وأدى إلى بوار مئات الآلاف من الأفدنة، وزيادة الاعتماد على استيراد الغذاء من الخارج في ظل أزمة الدولار الخانقة.
 

تصريحات للاستهلاك الخارجي
المفارقة أن السيسي يكرر حديثه عن "عدم الهيمنة" و"التعاون المشترك"، بينما الوقائع تُكذب خطابه. إثيوبيا تمارس منطق الهيمنة فعليًا منذ سنوات، وتتصرف في مياه النيل باعتبارها ملكية خاصة، دون أي اتفاق مُلزم يحفظ حقوق مصر.
ومع ذلك، تكتفي القيادة المصرية بالتصريحات، بل ووقّعت في 2015 "اتفاق المبادئ" الذي منح أديس أبابا الغطاء القانوني للمضي في مشروعها دون رقيب أو حسيب.
 

انعكاسات داخلية قاسية
العجز المائي الذي يواجه مصر اليوم لم يعد مسألة تقديرات مستقبلية، بل حقيقة معاشة.
وزارة الري نفسها اعترفت أن نصيب الفرد من المياه انخفض إلى أقل من 550 متر مكعب سنويًا، وهو ما يضع مصر تحت خط الفقر المائي عالميًا.
في الريف، شكاوى الفلاحين من نقص المياه في الترع وبوار الأرض تتزايد يومًا بعد يوم، بينما الحكومة تدفعهم نحو محاصيل بديلة أقل استهلاكًا للماء لكنها أقل جدوى اقتصادية.
 

سياسة الهروب إلى الأمام
الخطاب الرسمي المصري يحاول الهروب إلى الأمام عبر الحديث عن مشاريع تحلية مياه البحر ومعالجة الصرف الزراعي، لكن هذه الإجراءات تبقى حلولًا مسكنة لا يمكن أن تعوض الفاقد الكبير من مياه النيل.
كما أن تكلفتها الباهظة تزيد من أعباء الديون على الاقتصاد المصري.

في المقابل، تُترك الأزمة الأساسية –وهي ملء وتشغيل السد الإثيوبي دون اتفاق– بلا حل حقيقي، وكأن النظام اختار الاستسلام للأمر الواقع.
 

ما بين القول والفعل
ما بين ما يقوله السيسي في المؤتمرات الدولية وما يعيشه المواطن المصري في قراه ومدنه، فجوة شاسعة.
فبينما يرفع الرئيس شعارات "التعاون والعدالة المائية"، يتجرع الشعب ثمن الإخفاقات: زيادة أسعار الغذاء بسبب تراجع الإنتاج المحلي، اتساع فجوة الاستيراد، ومعاناة يومية للفلاحين الذين كانوا تاريخيًا العمود الفقري للأمن الغذائي المصري.
 

الخاتمة: أزمة مستمرة
تصريحات السيسي أمام نظيره الرواندي ليست سوى فصل جديد من فصول الخطاب الدعائي الذي لا يُغير من الحقائق شيئًا. فالمياه ما زالت خلف السد، والحصة التاريخية لمصر تتآكل، والبلاد تواجه خطرًا وجوديًا غير مسبوق.

الحقيقة المؤلمة أن النظام يتحدث بلغة مطمئنة أمام الإعلام، لكنه يفتقد الإرادة السياسية وأدوات الضغط الفعالة لوقف الكارثة.
وبينما يرفع شعاره "لا هيمنة ولا ضرر"، يترسخ واقع جديد من الهيمنة الإثيوبية والضرر المصري الواضح.