منذ اندلاع العدوان الأخير على قطاع غزة، برزت تساؤلات عميقة حول الأبعاد الإنسانية والسياسية للأحداث الجارية، وما إذا كان ما يحدث يمثل بداية تنفيذ لسيناريو التهجير الجماعي للفلسطينيين بحجج إنسانية.
فالقصف المتواصل، والحصار الخانق، والدمار شبه الكامل للبنية التحتية، إلى جانب الدعوات المتكررة لإخلاء مناطق واسعة، كلها مؤشرات تعيد للأذهان مخاوف من تكرار نكبة عام 1948 ولكن بأدوات وخطاب مختلفين.
والتهجير القسري يُعد من أخطر الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني، وقد حظرت اتفاقيات جنيف نقله أو تنفيذه إلا في حالات ضيقة جداً تتعلق بسلامة المدنيين بشكل مؤقت.
ومع ذلك، كثيراً ما استُخدم الغطاء الإنساني لتبرير ممارسات تخدم أهدافاً سياسية أو عسكرية أوسع.
في الحالة الفلسطينية، يتكرر النمط: دعوات للإخلاء "من أجل الحماية"، ثم تحول الأمر إلى نزوح طويل المدى يغيّر البنية الديمغرافية للمكان.
المؤشرات على بداية السيناريو
يمكن رصد جملة من الوقائع التي تعزز فرضية أن التهجير يُطرح حالياً تحت ستار "الدوافع الإنسانية":
- إخطارات الإخلاء بحجة الأمن: طلبت إسرائيل من مئات آلاف السكان مغادرة شمال ووسط القطاع "حفاظاً على حياتهم". غير أن هذه المناطق لم تعد صالحة للعودة لاحقاً بعد تدميرها الواسع، ما يجعل الإخلاء عملياً خطوة في اتجاه تهجير دائم.
- الحديث عن "النزوح الطوعي": بعض التصريحات الإسرائيلية أشارت إلى إمكانية مغادرة الفلسطينيين بشكل طوعي إلى دول أخرى، وكأنها تقدم خياراً إنسانياً بينما الواقع أن الظروف المعيشية الصعبة قد تدفع الناس للرحيل قسراً.
- تصوير غزة كمنطقة غير قابلة للحياة: عبر الإعلام والتقارير، يُقدَّم القطاع كمنطقة مدمرة لا تصلح للسكن، في محاولة لإضفاء منطقية على فكرة نقل السكان إلى أماكن أخرى أكثر "أمناً" أو "استقراراً".
- اتصالات مع دول خارجية: تقارير تحدثت عن محاولات إسرائيلية لإقناع بعض الدول في أفريقيا وأمريكا اللاتينية باستقبال لاجئين فلسطينيين. ورغم أن الفكرة لم تتحول إلى واقع، إلا أنها تكشف أن التهجير مطروح كخيار سياسي.
المواقف الإقليمية والدولية
- الموقف العربي: معظم الدول العربية، وخاصة مصر والأردن، رفضت بشكل إعلامي فكرة التهجير من غزة لكن الواقع ربما يكون غير هذا، فهذا الرفض حال حتى الآن دون تمرير أي خطة معلنة للتهجير.
- الموقف الدولي: المجتمع الدولي منقسم؛ بعض الأصوات في الغرب تتحدث عن "الحلول الإنسانية" عبر فتح معابر لاستقبال النازحين مؤقتاً، بينما منظمات حقوقية تحذر من أن هذه الخطوة قد تكون غطاءً لتهجير دائم.
- الأمم المتحدة: حذرت مراراً من خطورة التهجير القسري، واعتبرت أن الظروف التي تُفرض على سكان غزة قد تجعل أي نزوح في حكم القسري حتى وإن بدا "طوعياً".
هل هو تهجير أم حماية إنسانية؟
المعضلة الجوهرية تكمن في أن أي عملية نزوح يجب أن تكون محمية بالحق في العودة الآمنة والكريمة.
لكن ما نراه على الأرض هو دمار شامل يمنع العودة، وانقطاع مقومات الحياة الأساسية، وهو ما يحوّل الحماية المؤقتة إلى تهجير فعلي.
بمعنى آخر، الحجة الإنسانية تُستخدم لتبرير نتائج سياسية واستراتيجية أوسع تستهدف تغيير الواقع الديمغرافي في غزة وربما لاحقاً في الضفة الغربية.
التقييم والخلاصة
يمكن القول إن سيناريو التهجير لم يُعلن رسمياً ولم يُنفذ بشكل كامل حتى الآن، لكنه بالتأكيد بدأ في التشكّل عبر خطوات عملية وخطاب إعلامي وسياسي يهيئ الأرضية لتقبله.
فإفراغ مناطق كاملة من سكانها بحجة حمايتهم، مع تدمير البنية التحتية ومنع العودة، يُعتبر تهجيراً حتى لو لم يُسمَّ بهذا الاسم.
الخطر الأكبر هو أن استمرار الحصار والدمار سيجعل بقاء السكان داخل غزة شبه مستحيل، مما يخلق ضغطاً "إنسانياً" قد يُستغل لدفعهم للرحيل.
لكن قوة الرفض الشعبي الفلسطيني، والمواقف العربية الصلبة، والرقابة الدولية، كلها عوامل ما زالت تمنع تحول هذا السيناريو إلى واقع شامل.