في سابقة غير مألوفة، أقدمت السلطات البولندية على توقيف ممثلين لعدد من شركات السلاح التابعة للاحتلال الصهيوني وفتحت تحقيقًا رسميًا معهم، استجابة لطلب مباشر من "مبادرة العدالة الفلسطينية".
هذه الخطوة، رغم رمزيتها، كشفت عن مفارقة مؤلمة: دولة أوروبية لا ترتبط بالصراع العربي–الصهيوني تتحرك قانونيًا ضد جرائم الاحتلال، بينما أنظمة عربية، وفي مقدمتها نظام السيسي العسكري، تلوذ بالصمت أو تواصل التعاون الأمني والاقتصادي مع الكيان الصهيوني.
مبادرة العدالة الفلسطينية: رسالة إلى أوروبا… وفضيحة للعرب
أشارت "مبادرة العدالة الفلسطينية" إلى أن هذه الشركات ليست مجرد كيانات تجارية، بل شريكة في قتل الأطفال والمدنيين في غزة.
وقال الدكتور مصطفى البرغوثي، الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، إن التوقيف يمثل "سابقة يجب البناء عليها"، مضيفًا: "المؤلم أن هذه الرسالة جاءت من بولندا، لا من القاهرة أو الرياض أو أبوظبي، رغم أن دماء الفلسطينيين تجري في شوارع غزة يوميًا".
البرغوثي اعتبر أن استمرار العلاقات بين الأنظمة العربية والاحتلال هو "تواطؤ مكشوف"، مشددًا على أن من يفتح الأجواء للتنسيق الأمني أو التطبيع الاقتصادي لا يختلف عن شريك في الجريمة.
أوروبا تتحرك… العرب يخرسون
المحامية الحقوقية رانيا مضاوي، المتخصصة بالقانون الدولي، قالت إن الخطوة البولندية تؤكد أن القانون الأوروبي يسمح بملاحقة أي طرف متورط في جرائم حرب، حتى خارج أراضيه.
وأضافت: "في المقابل، الأنظمة العربية لم تستخدم ولو جزءًا بسيطًا من أدواتها الدبلوماسية أو القضائية لحماية الشعب الفلسطيني، وكأنها عاجزة أو متواطئة".
وأكدت أن تخلي الأنظمة العربية عن مسؤولياتها جعل المبادرات الحقوقية الفلسطينية تبحث عن العدالة في أوروبا بدلًا من العالم العربي، وهو ما يكشف مدى عمق الانهيار السياسي في المنطقة.
الموقف الأوروبي يتغير… بينما السيسي يحاصر غزة
الخبير الألماني وولفغانغ شبان رأى أن الموقف البولندي يعكس بداية تصدع في جدار الصمت الأوروبي تجاه الكيان الصهيوني.
لكنه لفت إلى أن المفارقة الصارخة تكمن في أن "أوروبا التي تبعد آلاف الكيلومترات تتحرك، بينما السيسي الذي يحكم مصر – بوابة غزة – يكتفي بإحكام الحصار وفتح المعابر بالشروط الصهيونية".
شبان أوضح أن الغضب الشعبي الأوروبي هو الذي يدفع بعض الحكومات إلى مواقف أكثر جرأة، بينما الأنظمة العربية تعمل بعكس إرادة شعوبها، وتحول القضية الفلسطينية إلى ورقة تفاوضية لخدمة بقاء الحاكم في السلطة.
البعد السياسي في وارسو… والخذلان في القاهرة
أستاذ العلوم السياسية بجامعة وارسو ماريك دفوجيك أكد أن الخطوة البولندية جاءت لتعزيز صورة بلاده كدولة تحترم القانون الدولي وتريد لعب دور مستقل داخل الاتحاد الأوروبي.
وقال: "إنها خطوة تكشف عجز الحكومات العربية، التي تمتلك أوراق ضغط هائلة على الكيان الصهيوني، لكنها ترفض استخدامها حفاظًا على تحالفاتها مع واشنطن وتل أبيب".
دفوجيك أشار أيضًا إلى أن المشهد بات مفضوحًا: أوروبا تتحرك بدافع حقوقي وإنساني، بينما القاهرة والرياض وأبوظبي تصطف في مربع واحد مع واشنطن وتل أبيب، في مشهد يثير الغضب لدى الشارع العربي.
مفارقة مخزية
يبقى السؤال الجوهري: لماذا تتحرك بولندا بينما تلتزم أنظمة عربية الصمت؟
المؤكد أن خطوة وارسو تمثل سابقة قانونية وسياسية يمكن البناء عليها، لكنها في الوقت ذاته تكشف حجم الانهيار العربي.
فالسيسي العسكري، الذي يروّج لنفسه كـ"حامي الأمن القومي"، يساهم عمليًا في استمرار الحصار على غزة، ويتجاهل صفقات السلاح التي تمر عبر المنطقة، مكتفيًا بترديد خطاب شعاراتي لا يوقف قتل الأطفال ولا يردع الاحتلال.
إن توقيف ممثلي شركات السلاح التابعة للاحتلال الصهيوني في بولندا هو صفعة على وجه الأنظمة العربية الصامتة، ورسالة واضحة أن العدالة لا تحتاج إلى أنظمة خانعة، بل إلى إرادة حقيقية ترفض تحويل فلسطين إلى ثمن لبقاء الحكام في قصورهم.