بينما يواصل الاحتلال الصهيوني حربه المفتوحة على غزة، تتراكم المؤشرات يومًا بعد آخر على تحوّل المزاج العالمي تجاهه، إذ باتت الحكومات الغربية، والشارع الأوروبي والأميركي، أكثر انفتاحًا على انتقاد الكيان الصهيوني، وفضح جرائمه، واتخاذ خطوات رمزية أو سياسية من شأنها عزله.
هذه التطورات المتسارعة دفعت مراقبين إلى القول إننا أمام لحظة تاريخية يمكن وصفها بمرحلة "إساءة الوجه" التي ورد ذكرها في القرآن الكريم: "لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ"، حيث تتهاوى صورة الكيان الصهيوني الذي طالما حاول ترويج نفسه كـ"ضحية"، فيما تتكشّف حقيقته كدولة احتلال تمارس الإبادة الجماعية.
مواقف متصاعدة ضد الكيان الصهيوني
خلال الساعات الأخيرة فقط، برزت أربع وقائع معبّرة عن هذا التحوّل. ففي إسبانيا، منعت بطولة رياضية دولية رفع علم الكيان الصهيوني داخل المدرجات، في خطوة غير مسبوقة تعكس حساسية الرأي العام الأوروبي تجاه مشاركته في الفعاليات الرياضية والثقافية.
أما في بريطانيا، فقد طالب عدد من نواب حزب العمال زعيم الحزب ورئيس حكومة الاحتلال الحالي كير ستارمر بعدم لقاء رئيس كيان الاحتلال إسحاق هرتسوغ خلال زيارته لندن، وهي دعوة تعبّر عن الشرخ الداخلي داخل حزب يُنظر إليه تقليديًا كحليف للكيان الصهيوني.
وفي فنلندا، أعلنت الحكومة انضمامها إلى "إعلان نيويورك" الذي يركّز على ضرورة إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، ما يمثّل مؤشّرًا إضافيًا على تحرّك دول أوروبية جديدة نحو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية.
وفي العاصمة الفرنسية باريس، شهدت إحدى الفعاليات تلاوة أسماء مئات الأطفال الفلسطينيين الذين استُشهدوا جراء العدوان الصهيوني، لتتحوّل المناسبة إلى منصة علنية لفضح جرائم الاحتلال أمام الرأي العام الفرنسي والعالمي.
الكيان الصهيوني يصرخ من العزلة
في مواجهة هذه المواقف، لا يتوقف الكيان الصهيوني عن الصراخ والتحذير مما يسمّيه "موجة العداء للسامية" التي تطارده في الجامعات الغربية، وفي الساحات الرياضية والثقافية والإعلامية.
لكن الوقائع الملموسة تُظهر أن ما يعانيه الكيان اليوم ليس "عداءً لليهود"، بل رفضًا متناميًا لممارساته الاستعمارية ضد الشعب الفلسطيني.
هذا التمييز بدأ يتبلور بشكل أوضح في الرأي العام الغربي، إذ تتّسع المسافة بين دعم اليهود كأصحاب ديانة ورفض المشروع الصهيوني ككيان سياسي استعماري.
وباتت صور المجازر في غزة، وخاصة استهداف الأطفال، المحرّك الأساسي لهذه النقلة النوعية في الوعي العالمي.
الطوفان وتبعاته
من جهة أخرى، يرى محللون أن التحوّلات الراهنة ما كانت لتحدث لولا عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الدولية. فالهجوم الذي نفذته المقاومة في غزة لم يقتصر على كسره صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، بل أعاد النقاش العالمي حول جوهر الصراع، وطرح أسئلة جذرية عن شرعية الاحتلال.
اليوم، حين يتساءل البعض: "ماذا حقق الطوفان؟"، تأتي الإجابة واضحة في اتساع نطاق عزلة الكيان الصهيوني، وتنامي مشاعر الغضب ضده حتى في عواصم الدول الداعمة له. هذا الإنجاز غير العسكري يعادل في تأثيره الإنجازات الميدانية، إذ يخلق بيئة دولية ضاغطة تضعف قدرة الاحتلال على فرض روايته، وتفتح المجال أمام خطوات دبلوماسية وقانونية جديدة لمحاسبته.
البعد التاريخي والديني
بالنسبة للعديد من المراقبين العرب والمسلمين، فإن مشهد العزلة المتزايدة للكيان الصهيوني يُستحضر في ضوء النص القرآني الذي تحدّث عن "إساءة الوجه" وعقاب الظالمين.
فالمجازر اليومية في غزة باتت نقطة انكشاف أخلاقي لدولة الاحتلال، والمرحلة التالية ـ كما يعتقد البعض ـ ستكون مرحلة استعادة المقدسات وعودة الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة.
وأخيرًا، فلا يمكن تجاهل حقيقة أن الكيان الصهيوني يمرّ بأزمة غير مسبوقة في صورته الدولية. فالأحداث الصغيرة المتفرقة، من منع علمه في إسبانيا إلى تلاوة أسماء الشهداء في باريس، ليست سوى شواهد على تآكل مكانته المعنوية، وتحوّله إلى رمز للقهر والإبادة في نظر الملايين حول العالم.
وبينما يواصل الاحتلال حربه الوحشية في غزة، فإن نتائجها السياسية والمعنوية ارتدّت عليه بشكل واضح، وفتحت الباب واسعًا أمام مرحلة جديدة من الصراع، يكون فيها الفلسطينيون ـ رغم جراحهم ـ أكثر حضورًا وشرعية على الساحة الدولية.
وبينما يحاول البعض ـ بسوء نية ـ التقليل من أثر "الطوفان" والمقاومة، فإن الوقائع اليومية تثبت العكس: المشروع الصهيوني يترنّح تحت وطأة العزلة، والوعي العالمي آخذ في التغيّر. إنها بالفعل مرحلة إساءة الوجه، والآتي قد يكون أعظم.