تشهد الساحة الدولية هذه الأيام تصاعداً ملحوظاً في خطاب الحرب الباردة الجديدة، حيث تزداد المؤشرات على أن العالم يتجه نحو مواجهة كبرى تتجاوز أوكرانيا، وتعيد رسم خرائط النفوذ بين القوى العظمى.
فبينما يواصل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إطلاق تصريحاته النارية حول السياسة الدفاعية لبلاده، ردّت الصين باستعراض عسكري ضخم حمل رسائل سياسية لا تخطؤها العين، لتشتعل موجة جديدة من الجدل حول احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة.
ترامب ومشاريعه العسكرية
البداية جاءت مع ترامب الذي كشف عن نوايا لإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية الأمريكية، حتى أنه طرح فكرة تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، في إشارة واضحة إلى توجه هجومي أكثر منه دفاعي.
ترامب لم يُخفِ يأسه من طول أمد الحرب في أوكرانيا وعدم تحقيق نتائج حاسمة، لكنه في الوقت نفسه جدّد المساعدات العسكرية لكييف، ليؤكد أن الولايات المتحدة لن تتراجع أمام موسكو مهما كان الثمن.
هذه السياسات، بما تحمله من كُلف باهظة وتوجه صدامي، دفعت المحللين إلى القول إن ترامب يسعى لفرض نفسه مجدداً كقائد لأمريكا القوية، ولو كان ذلك عبر إشعال مزيد من التوترات.
استعراض عسكري صيني بحضور بوتين وكيم
ردّ الصين لم يتأخر، فجاء عبر استعراض عسكري ضخم في بكين بمناسبة مرور 80 عاماً على النصر في الحرب العالمية الثانية على اليابان.
الاستعراض لم يكن عادياً، إذ حضره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، في مشهد أرسل للعالم بأسره رسالة تحالف ثلاثي يتحدى واشنطن وحلفاءها.
من خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ التقطت وكالات الأنباء عبارة حاسمة: "اليوم تواجه البشرية خيار السلام أو الحرب، والحوار أو المواجهة، والربح المشترك أو المعادلة الصفرية".
كلمات بينغ بدت كإنذار للغرب بأن التمسك بعالم القطب الواحد لم يعد ممكناً، وأن الصين وروسيا وكوريا الشمالية مستعدة لفرض معادلة جديدة في التوازن الدولي.
ردّ ساخر من ترامب
الرسالة لم تتأخر في الوصول إلى واشنطن، ليرد ترامب بلهجة ساخرة على منصة التواصل الاجتماعي الخاصة به قائلاً: "أتمنى للرئيس شي جين بينغ وللشعب الصيني احتفالاً رائعاً لا يُنسى. من فضلكم، انقلوا أحر تحياتي لفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، بينما أنتم تجهزون مؤامرة ضد الولايات المتحدة".
تعليق ترامب بدا لاذعاً لكنه حمل في طياته إقراراً بالخطر المتنامي للتحالف الآسيوي، وأن أمريكا باتت في مواجهة مباشرة مع خصوم يمتلكون أدوات عسكرية وتقنية قادرة على إحداث فارق استراتيجي.
الحرب الباردة الجديدة والتكنولوجيا
ما يميز الحرب الباردة الراهنة عن سابقتها ليس فقط تعدد الأطراف، بل دخول الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة على الخط. اليوم يمكن للطائرات المسيّرة، والصواريخ فرط الصوتية، والحرب السيبرانية أن تغيّر مجرى أي صراع، وتجعل حسابات الخسائر أكثر كارثية مما عرفه العالم في القرن العشرين.
ولذلك يحذّر الخبراء من أن أي خطأ تكتيكي صغير قد يقود إلى انفجار شامل لا يمكن السيطرة على تبعاته.
ضرورة الاعتراف بموازين القوى الجديدة
التحذيرات تتوالى بأن العالم يسير نحو محطة خطيرة ما لم تعترف الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بـالتوازنات الجديدة للقوة، خصوصاً بعد صعود الصين كلاعب اقتصادي وعسكري، وتعافي روسيا رغم العقوبات الغربية، وتحالفها مع قوى إقليمية مثل كوريا الشمالية وإيران.
استمرار تجاهل هذه الحقائق يعني تسارع سباق التسلح وانتظار لحظة "الجنون"، كما وصفها محللون، وهي اللحظة التي قد تفجّر مواجهة كبرى.
أين موقع الأمة العربية؟
وسط هذا الصراع المحموم، يبرز سؤال جوهري: أين موقع الأمة العربية من هذه الترتيبات؟
للأسف، تبدو الأنظمة العربية أكثر انشغالاً بمخاوفها الداخلية، وخوفها من شعوبها أكثر من خوفها من القوى المتربصة.
الانقسامات الحادة، وغياب استراتيجية موحدة، يجعل المنطقة مجرد ملعب تتصارع فيه القوى الكبرى، بدلاً من أن تكون طرفاً مؤثراً يستغل هذه التحولات لصالح مستقبله.
الحكمة من التاريخ
من المقولات الشهيرة للعالم الفيزيائي ألبرت آينشتاين: "لا أعلم بأي أسلحة ستُخاض الحرب العالمية الثالثة، لكن الحرب العالمية الرابعة ستُخاض بالعصي والحجارة".
اليوم يبدو أن الجزء الأول من المقولة قد اتضح مع سباق التسلح النووي والتكنولوجي، أما الجزء الثاني فقد يكون نبوءة واقعية إن اندلعت حرب كبرى تُفني الحضارة وتعيد البشرية إلى نقطة الصفر.
وفي ظل هذه المؤشرات المتسارعة، يقف العالم على أعتاب مرحلة خطيرة، حيث تتقاطع الطموحات الإمبراطورية مع سباق التكنولوجيا والتسلح. ما لم يظهر عقل سياسي رشيد قادر على إدارة التوازنات بعقلانية، فإن شبح الحرب العالمية الثالثة لن يظل مجرد جدل إعلامي، بل قد يتحول إلى واقع مرير يدفع الجميع ثمنه.