لم يعد التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي مجرد شأن سياسي أو أمني، بل انتقل في السنوات الأخيرة إلى مستويات أكثر نعومة وخطورة عبر الرياضة والترفيه.
السعودية، التي تسعى لتسويق نفسها عالميًا كقوة صاعدة في صناعة الترفيه ضمن رؤية 2030، وجدت في الفعاليات الرياضية والفنية أداة مثالية لتلميع صورتها الخارجية، لكنها في الوقت نفسه فتحت الباب لتطبيع متدرج مع إسرائيل، حتى في أشد لحظات العدوان على غزة.
 

بطولة الألعاب الإلكترونية: من منافسة شبابية إلى مسرح سياسي
أحدث حلقات هذا المسار تجسدت في بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية التي احتضنتها الرياض. خمسة لاعبين إسرائيليين شاركوا في المنافسة على ملايين الدولارات، في وقت كانت فيه صور أشلاء الأطفال في غزة تملأ الشاشات. لم يعد الأمر حدثًا عابرًا، بل تحول إلى مشهد رمزي بالغ الدلالة: غزة تُباد، بينما يُستقبل الإسرائيليون على أرض عربية بتمويل حكومي وبأضواء إعلامية.
 

صورة متعمّدة ورسائل متعددة
من أكثر الصور تداولًا لاعب الاحتلال جاي إيلوز (NertZ) مرتديًا قميصًا بألوان قوس قزح.
اختيارٌ بدا متعمدًا ليوجه ثلاث رسائل متوازية:

  • للخارج: أن السعودية لم تعد محافظة متشددة، بل منفتحة على القيم الغربية.
  • للداخل: أن الإسرائيلي أصبح عنصرًا عاديًا في المشهد العام.
  • للفلسطينيين: أن قضيتهم يمكن تجاوزها حتى على منصات الترفيه كما جرى تجاوزها في صفقات السلاح والغاز.
     

سياسة رسمية وليست صدفة
لم يكن ظهور الإسرائيليين في البطولة مجرد مفاجأة.
وزير الرياضة السعودي عبد العزيز بن تركي الفيصل أقرّ مسبقًا أن الرياضيين الإسرائيليين يشاركون في فعاليات داخل المملكة حتى في خضم الحرب على غزة.
ما يؤكد أن التطبيع عبر الرياضة سياسة ممنهجة تتسق مع توجهات ولي العهد محمد بن سلمان في استخدام الترفيه والرياضة كأداة سياسية لتلميع النظام وإعادة تشكيل وعي الأجيال.
 

سجل طويل من "غسيل السمعة الرياضي"
ليست هذه الحادثة منفصلة.
السعودية أنفقت مليارات الدولارات منذ 2018 على استضافة فعاليات عالمية مثيرة للجدل:

  • كأس السوبر الإيطالي والإسباني: نُظما في الرياض رغم اعتراض جماهير الأندية.
  • الفورمولا 1 بجدة: سباقات على الكورنيش بالتزامن مع الإعدامات والاعتقالات.
  • بطولات LIV Golf: مشروع ملياري قوبل باتهامات حقوقية واسعة.
  • مونديال 2034: فاز بالاستضافة عبر ضغوط مالية وسياسية.

جميع هذه الأحداث وُصفت عالميًا بأنها محاولات لـ"Sportswashing"، أي غسل السمعة عبر الرياضة.
 

ازدواجية الداخل والخارج
في الداخل، يُجرّم أي تضامن علني مع غزة، وتُلاحق حتى التغريدات المعارضة للاحتلال أو التطبيع. في المقابل، تُفتح الأبواب واسعة أمام الإسرائيليين، في مشهد يُظهر التناقض الفاضح بين قمع المشاعر الشعبية وفرض التطبيع من أعلى.
 

قميص بألوان الميم: دعاية مركبة
ارتداء القميص الملوّن في الرياض لم يكن تفصيلًا بسيطًا. إنه طبقة إضافية في مشروع التلميع: تسويق صورة المملكة للغرب كدولة "منفتحة ومتسامحة"، بينما تُخفى هذه المشاهد عن الجمهور المحلي.
إنها ازدواجية مصممة بعناية لتخاطب جمهورين مختلفين في آن واحد.
 

من التطبيع السياسي إلى التطبيع الشعبي
الخطر الأكبر أن التطبيع لم يعد حكرًا على القادة، بل يجري تمريره تدريجيًا إلى الجماهير، خصوصًا الشباب.
مشاهدة لاعب إسرائيلي في بطولة عالمية تُقام في الرياض قد تبدو للبعض أمرًا عاديًا بمرور الوقت، وهو ما يهدف إليه المشروع: إعادة تشكيل الوعي الجمعي بحيث يغدو الاحتلال جزءًا من المشهد الطبيعي.
 

انتقادات دولية ووصمة مستمرة
رغم الأموال الطائلة، لم تتمكن السعودية من شراء الصمت الدولي بالكامل.
تقارير صحفية من كبريات الصحف مثل الجارديان ونيويورك تايمز وصفت هذه الاستثمارات بأنها "رشاوى رياضية".
منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش اتهمت اللاعبين والأندية المشاركة بالتواطؤ في غسيل الدم السعودي.
واليوم، بعد استضافة لاعبين إسرائيليين في عزّ الإبادة في غزة، بات المشهد أكثر وضوحًا: الرياضة مجرد غطاء للتطبيع وتبييض الاحتلال.