في خطوة غير مسبوقة منذ عقود، أعلن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أمام البرلمان، قطع العلاقات التجارية والاقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب غلق المجال الجوي التركي أمام الطائرات الإسرائيلية.
هذا القرار يُشكّل تصعيدًا استراتيجيًا في سياق الصراع الدائر في غزة، ويضع تركيا في مواجهة مباشرة مع مصالح تل أبيب الاقتصادية والعسكرية، في وقت تتراجع فيه مواقف كثير من الدول العربية إلى دائرة الإدانات اللفظية فقط.
الأبعاد السياسية والاستراتيجية للقرار التركي
القرار التركي يأتي ضمن سياسة أكثر حدة تتبناها أنقرة في الآونة الأخيرة تجاه الاحتلال، مستندة إلى تصاعد الغضب الشعبي التركي، والموقف الإسلامي المناصر للفلسطينيين.
بإغلاق المجال الجوي، فإن تركيا تحرم إسرائيل من أحد أهم المسارات الجوية التي تربطها بأوروبا وآسيا، ما يضيف ضغوطًا لوجستية وتكاليف إضافية على شركات الطيران الإسرائيلية، ويُفقدها ميزة التنقّل السريع في المجال الإقليمي.
أما على المستوى الاقتصادي، فإن وقف التجارة الثنائية – التي بلغت نحو 6.8 مليارات دولار عام 2023 – يضرب قطاع الاستيراد والتصدير الإسرائيلي في مقتل، خاصة في المنتجات التركية التي كانت تمثل خيارًا منخفض التكلفة لإسرائيل في قطاعات الإنشاءات والسلع الاستهلاكية.
التأثيرات الاقتصادية على الجانبين
إسرائيل ستتكبّد خسائر واضحة؛ إذ كانت تعتمد على واردات تركية من الحديد والصلب، والمواد الغذائية، والمنتجات الصناعية.
كذلك، سيؤثر إغلاق المجال الجوي على قطاع السياحة الإسرائيلي، الذي كان يستفيد من رحلات العبور عبر تركيا.
في المقابل، تتحمّل تركيا جزءًا من التبعات الاقتصادية، لكنها تراهن على بدائل في الأسواق الأوروبية والعربية، وتستند إلى صناعة قوية ومتنوعة تجعلها أقل هشاشة أمام فقدان السوق الإسرائيلي.
البروفيسور أحمد أوزدمير، خبير اقتصادي، يرى أن القرار:
"لن يكون له أثر كبير على الاقتصاد التركي على المدى الطويل، بل قد يمنحه دفعة أخلاقية وسياسية تترجم لاحقًا إلى مكاسب استثمارية مع دول عربية وإسلامية، تقدّر الموقف التركي المبدئي."
لماذا لا تحذو الدول العربية حذو تركيا؟
السؤال الذي يطرحه الشارع العربي: لماذا لم تسلك الدول العربية، وخاصة دول الجوار، نفس النهج التركي؟
الإجابة تكمن في عدة اعتبارات:
- التشابك الاقتصادي العميق مع الغرب: معظم الدول العربية ترتبط باتفاقيات استراتيجية مع الولايات المتحدة وأوروبا، التي تُعد داعمًا رئيسيًا لإسرائيل. أي تصعيد قد يترتب عليه ضغوط اقتصادية وسياسية هائلة.
- غياب الإرادة السياسية: الأنظمة العربية تُفضّل الحفاظ على استقرار أنظمتها، وتجنّب أي خطوة قد تُفسّر على أنها مغامرة سياسية، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية الداخلية.
- التطبيع وتوسيعه: بعض الدول العربية دخلت في اتفاقيات تطبيع اقتصادية وأمنية مع إسرائيل، مثل الإمارات والبحرين والمغرب، ما يجعل أي قطيعة غير واقعية في المدى القريب.
يقول المحلل السياسي خالد الدخيل:
"القرار التركي كشف الفارق بين الشعارات التي ترفعها بعض الأنظمة العربية، وبين الأفعال الحقيقية التي يمكن أن تغيّر معادلة الصراع لصالح الفلسطينيين."
هل تتوسع خطوات تركيا إقليميًا؟
قرار أنقرة يفتح الباب أمام احتمالية تشكيل محور اقتصادي وسياسي داعم للمقاومة الفلسطينية، خصوصًا إذا تبعته دول كـإيران أو ماليزيا أو حتى الجزائر.
لكن في ظل التشرذم العربي، يظل السيناريو الأكثر ترجيحًا هو بقاء تركيا في المقدمة، ما يمنحها أوراق قوة إضافية في ملفاتها الإقليمية، من سوريا إلى شرق المتوسط.
الفعل مقابل الخطاب
بينما تكتفي دول عربية بالإدانات الإعلامية، ذهبت تركيا إلى الفعل الملموس، ضاربةً بعرض الحائط أي حسابات قصيرة الأمد أمام موقف مبدئي يُعيد لها رصيدها الشعبي والإقليمي.
القرار التركي لم يكن مجرد خطوة دبلوماسية، بل رسالة قوية بأن المصالح الاقتصادية ليست مبرّرًا للتواطؤ مع الاحتلال، وأن الدول التي تملك إرادة تستطيع أن تقلب المعادلات، حتى في أكثر الملفات تعقيدًا.