في واقعة جديدة تهز الضمير الإنساني، توفي المواطن عبدالرحمن أحمد عبدالرحمن داخل قسم شرطة العمرانية بمحافظة الجيزة، في ظروف وصفتها أسرته بالمأساوية، بعد أن كان يتواصل معهم من الحجز متوسلًا توفير أموال، قائلًا إن هذه المبالغ مطلوبة "لوقف تعذيبه".

وقد أثارت الواقعة غضبًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وسط مناشدات من الأسرة لوزارة الداخلية بفتح تحقيق عاجل وشفاف يكشف ملابسات ما جرى، ويحاسب المسؤولين في حال ثبوت أي تجاوز أو انتهاك.
 

وفاة عبدالرحمن ليست حدثًا معزولًا في سجل السجون وأقسام الشرطة في مصر، بل تأتي في سياق سلسلة من الوفيات والوقائع التي ارتبطت بتعذيب محتجزين أو الإهمال الطبي أو ظروف احتجاز غير إنسانية.

ووفقًا لروايات الأسرة، فإن الضحية كان بصحة جيدة قبل احتجازه، وكان على تواصل مستمر معهم، يرسل إليهم نداءات استغاثة مرارًا، طالبًا أموالًا، ملمّحًا إلى تعرّضه للضرب والتعذيب داخل القسم.

وتشير هذه المعطيات إلى ضرورة مراجعة ظروف الاحتجاز في الأقسام، وفتح ملفات طالما جرى التعتيم عليها.

 بحسب مصادر حقوقية وإعلامية محلية، فإن الأسرة تقدمت بشكوى رسمية تطالب بفتح تحقيق، كما طالبت بعرض الجثمان على الطب الشرعي بشكل محايد ومستقل، للتأكد من أسباب الوفاة، وإثبات ما إذا كانت ناجمة عن تعذيب أو إهمال طبي أو ظروف احتجاز غير ملائمة.

إلا أن الصمت الرسمي ما زال سيد الموقف حتى لحظة كتابة هذا التقرير، ما يثير المخاوف من تكرار نمط الإفلات من العقاب.

 وتعيد هذه الواقعة إلى الأذهان العديد من الحوادث المشابهة التي شهدتها أقسام الشرطة المصرية خلال السنوات الماضية.

ومن أبرز تلك الوقائع:

1. وفاة خالد سعيد – يونيو 2010

تعد هذه الحادثة من أشهر قضايا التعذيب في مصر، حين توفي الشاب خالد سعيد في قسم شرطة سيدي جابر بالإسكندرية، بعد تعرضه للضرب على يد عناصر أمن. وقد أشعلت صور جثمانه المشوه مواقع التواصل، وكانت الشرارة التي أشعلت ثورة 25 يناير 2011. لاحقًا، أصدرت المحكمة حكمًا بالسجن 10 سنوات بحق اثنين من أمناء الشرطة، لكن القضية ظلت نقطة سوداء في سجل حقوق الإنسان المصري.

 

2. وفاة طلعت شبيب – ديسمبر 2015

توفي المواطن طلعت شبيب بعد احتجازه بقسم شرطة الأقصر، واتهمت أسرته الشرطة بتعذيبه حتى الموت. أثار الحادث احتجاجات واسعة في المدينة، انتهت بمحاكمة ضابط شرطة و3 أفراد أمن، تم الحكم على الضابط بالسجن 7 سنوات، وعلى الآخرين بثلاث سنوات لكل منهم.

 

3. وفاة مجدي مكين – نوفمبر 2016

تعرض المواطن القبطي مجدي مكين للتعذيب حتى الموت داخل قسم الأميرية بالقاهرة، بعد توقيفه مع اثنين من أصدقائه. الطب الشرعي أكد وجود تهتك في العمود الفقري وكدمات شديدة. وبعد جدل واسع، صدر حكم بالسجن 3 سنوات لضابط شرطة، في محاكمة استمرت أكثر من 4 سنوات.

 

4. وفاة إسلام الاسترالي – سبتمبر 2020

توفي الشاب إسلام الأسترالي داخل قسم شرطة المنيب بالجيزة بعد ساعات من احتجازه. الشهود وأسرته اتهموا الشرطة بتعذيبه حتى الموت، لكن وزارة الداخلية نفت ذلك، وزعمت أنه "ابتلع لفافة مخدرة". ورغم المطالبات بتحقيق مستقل، أُغلقت القضية دون محاسبة.

 

5. وفاة عويس الراوي – أكتوبر 2020

قُتل الشاب عويس الراوي في منزله بمدينة الأقصر، بعد مداهمة قوات الشرطة لمنزله ورفضه الكشف عن مكان شقيقه.

ادّعت السلطات أن وفاته جاءت إثر تبادل إطلاق نار، بينما أكدت أسرته وعدد من الأهالي أنه قُتل عمدًا. ولم تتم محاكمة أحد في الواقعة.

 

6. وفاة مصطفى منتصر – يونيو 2022

لقي الشاب مصطفى منتصر مصرعه داخل قسم شرطة الدقي بالقاهرة.

أفادت روايات أسرته أن علامات تعذيب ظهرت على جسده، إلا أن الرواية الرسمية تحدثت عن "أزمة قلبية مفاجئة". لم تُفتح أي تحقيقات جنائية في الحادث.

هذه الحوادث، رغم اختلاف تفاصيلها، تتفق جميعها في قاسم مشترك: الانتهاكات المتكررة داخل أماكن الاحتجاز، وغياب الشفافية، والمماطلة في إجراء تحقيقات مستقلة، وانعدام المحاسبة الجادة، مما أدى إلى حالة من انعدام الثقة بين المواطنين ومؤسسات إنفاذ القانون.

أما بالنسبة لقضية عبدالرحمن أحمد عبدالرحمن، فإن المعلومات المتاحة حتى الآن تشير إلى وجود نداءات استغاثة واضحة سبقت وفاته، مما يضع مسؤولية قانونية وأخلاقية على عاتق إدارة القسم والسلطات المعنية.

القانون المصري والاتفاقيات الدولية التي صدقت عليها مصر – مثل اتفاقية مناهضة التعذيب – تجرّم التعذيب وتُلزم الدولة بالتحقيق في أي ادعاءات تتعلق به.

كما ينص الدستور المصري في مادته (55) على أن “كل من يُقبض عليه أو يُحبس أو تُقيّد حريته يجب معاملته بما يحفظ كرامته الإنسانية، ولا يجوز تعذيبه أو ترهيبه أو إيذاؤه بدنيًا أو معنويًا.”

لكن هذه النصوص كثيرًا ما تبقى حبرًا على ورق، في ظل ثقافة الإفلات من العقاب التي تُكرّس من خلال التحقيقات الشكلية أو تجاهل الشكاوى تمامًا.

ويزداد الوضع خطورة حين يُستخدم التعذيب كوسيلة منتظمة لتحصيل اعترافات أو عقوبات غير قانونية، دون وجود رقابة فعالة من الجهات القضائية أو الرقابية.

وفي ظل غياب إرادة سياسية حقيقية لوقف هذه الانتهاكات، تبقى الأسرة المكلومة وحدها في مواجهة جدار الصمت والتجاهل، وهو ما يدفعنا لتكرار السؤال الذي طرحه كثيرون:

كم من المواطنين يجب أن يموتوا داخل أقسام الشرطة، قبل أن تتحرك الدولة لإجراء إصلاحات حقيقية في جهاز الأمن؟

إن قضية عبدالرحمن أحمد عبدالرحمن تمثل اختبارًا جديدًا للدولة المصرية، لاسيما وزارة الداخلية، في مدى التزامها بمبادئ العدالة والمحاسبة.

والمطلوب ليس فقط فتح تحقيق شفاف، بل إشراك جهات حقوقية وقضائية مستقلة، ونشر نتائج التحقيق للرأي العام، حتى لا تضيع دماء الضحايا بين أوراق الملفات المغلقة.

وختامًا، فإن تكرار مثل هذه المآسي لا يمكن أن يُفهم على أنه حوادث فردية أو "أخطاء معزولة" كما يتم توصيفها عادة، بل هو عرضٌ لمرض أعمق في بنية المنظومة الأمنية والقضائية.

وما لم تتم مواجهة هذا الخلل البنيوي بشجاعة وإرادة، فإن عبدالرحمن لن يكون الأخير، كما لم يكن الأول.