مصطفى عبد السلام
رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد"
لا أعرف على أيّ أساس بنى بنك غولدمان ساكس الأميركي التوقعات الأخيرة المتفائلة بشأن الجنيه المصري، التي أكّد فيها أن القيمة الحقيقية لسعر الدولار هي 35 جنيهًا مقابل نحو 49.4 جنيهًا حاليًا و51.7 جنيهًا في إبريل الماضي، وأن الجنيه مقوّم بأقل من قيمته بنحو 30%، ما يعزّز فرصه في تحقيق ارتفاع خلال الفترة المقبلة بحسب ما جاء في أحدث تقرير صادر عن البنك الاستثماري، خاصة في ظل استمرار تدفقات المحافظ الاستثمارية وتحسّن المؤشرات النقدية، بل ويذهب البنك إلى توصية المصريين والأجانب، سواء مدخرين أو مضاربين، ببيع العملة الأميركية وشراء العملة المصرية.
البنك الأميركي استند في تحليله أيضًا لتحسّن الجنيه المصري إلى عوامل عدّة أبرزها، تعزيز الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزي المصري، وتحوّل صافي الأصول الأجنبية في القطاع المصرفي إلى فائض بقيمة 4.8 مليارات دولار في مايو الماضي، بعد أن كان يسجل عجزًا بنحو 17.6 مليار دولار في بداية العام 2023، وهي عوامل تمثّل دعمًا قويًا للجنيه وفق تقريره الأخير، الذي أشار إلى استقرار العملة المحلية منذ خفض قيمتها في مارس 2024، واختفاء الفارق بين السعرَين الرسمي والسوق الموازية، واعتبر أنّ هذا يعكس تزايد ثقة الأسواق في سياسة سعر الصرف، رغم التحديات الجيوسياسية في المنطقة.
اللافت في الأمر أنّ هذا التقرير المتفائل للجنيه المصري يأتي في الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد المصري تحديات عدة، وتزداد فيه ضغوط صندوق النقد الدولي وغيره من المانحين، سواء الإقليمين أو الدوليين، على مصر، والكشف عن ضخامة الأعباء الخارجية المستحقة على الدولة، وتوقعات بتراجع موارد مصر الدولارية من بعض الأنشطة الاستراتيجية مثل قناة السويس والاستثمارات المباشرة، وربما تحويلات العاملين في الخارج في حال تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، ولجوء دول الخليج النفطية لسياسة خفض الإنفاق العام والاستغناء عن جزء من العمالة الوافدة ومنها المصرية، والأخطر هنا هو الاعتماد على الأموال الساخنة في دعم سعر الجنيه واستقرار سوق الصرف الأجنبية، وهو أمر خطر طالما حذرنا منه مرات، إذ أن هروب تلك الأموال مع وقوع أول خطر يتبعه تعويم جديد للعملة المحلية.
وفي نظرة لأحدث الأرقام نجد أنّه وفق التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي فإنّ العام المالي 2024-2025 سيكون الأعلى من حيث قيمة الديون المستحقة على مصر، إذ مثّلت ديون الصندوق وحده نحو 12.2% من إجمالي إيرادات الدولة، وأن مصر ستواجه فجوة تمويلية بقيمة 5.8 مليارات دولار في العام المالي الحالي 2025-2026، وتوقعات أن يسجل الدين الخارجي لمصر 46.6% من الناتج المحلي الإجمالي، ليصل إلى 180.6 مليار دولار خلال هذا العام.
وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي الأخيرة إلى أن إجمالي الدين الخارجي لمصر قد يتخطى حاجز مئتَي مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، مع مواصلة سياسات الاقتراض الخارجي وتوسّع الحكومة في تمويل مشروعات البنية التحتية والتحول الاقتصادي من خلال قروض خارجية ميسّرة، وأخرى تجارية تهدف إلى دعم ميزان المدفوعات وسدّ الفجوة التمويلية في موازنة الدولة.
وهناك ضغوط مالية أخرى محتملة بشأن الجنيه، فصندوق النقد أجّل صرف الشريحة الخامسة من قرضه البالغ قيمتها 1.2 مليار دولار، مع دمجه مؤخرًا المراجعتَين الخامسة والسادسة وتأجيلهما إلى نهاية العام، لإعطاء الحكومة مزيدًا من الوقت لتنفيذ الإصلاحات المتفق عليها، والخطوة قد يترتب عليها بالطبع تأجيل إفراج دائنين آخرين عن قروض جديدة لمصر مثل قرض الاتحاد الأوروبي البالغ قيمته أربعة مليارات يورو.
وإضافة إلى أعباء الديون الخارجية، فإنّ هناك التزامات أخرى مستحقة على الدولة منها تدبير قيمة استيراد الغاز الطبيعي لمدة عامَين، والمقدر قيمتها بنحو ثمانية مليارات دولار، وسداد باقي المستحقات المتأخرة لشركات النفط الأجنبية، والديون الخارجية المستحقة على جهات حكومية مثل الهيئة العامة للبترول.
أما على مستوى الموارد الدولارية التي تلعب دورًا محوريًا في تحديد قيمة سعر الدولار في مصر، فقد توقع صندوق النقد تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 50.7% خلال العام المالي 2024-2025 لتسجل نحو 3.6 مليارات دولار، مقارنة بـ 6.6 مليارات دولار في نهاية العام المالي 2023-2024، في ظل استمرار التحديات المرتبطة بالملاحة العالمية وحرب غزة وقلاقل البحر الأحمر وباب المندب وهجمات الحوثيين على السفن المتجهة إلى دولة الاحتلال.
كما يتوقع الصندوق أن يصل صافي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 15.6 مليار دولار خلال السنة المالية الحالية، وأن يرتفع ارتفاعًا طفيفًا إلى 16.9 مليار دولار خلال 2026-2027.
لن أتحدث هنا عن الديون الخارجية الضخمة المطلوب من مصر سدادها على المدى البعيد، وعلى سبيل المثال فإنّ صندوق النقد يتوقع أن تسدد الدولة كامل التزاماتها المالية المستحقة له في العام 2046، أي خلال 22 سنة. هذا يعني استمرار ارتباط الدولة المصرية بالمؤسسة الدولية طوال تلك الفترة الطويلة
السؤال هنا، كيف تتحسّن قيمة الجنيه مقابل الدولار في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة اغتراف مزيد من القروض الخارجية، وتعتمد على الأموال الساخنة في دعم استقرار سوق الصرف الأجنبية، ويعتمد الاحتياطي الأجنبي على ودائع خارجية حيث تحتفظ ثلاث دول خليجية بودائع بقيمة 18.3 مليار دولار لدى البنك المركزي المصري يحين أجل سداد آخر وديعة فيها في أكتوبر 2026؟
المثل المصري الشعبي الشهير يقول "أسمع كلامك أصدقك... أشوف أمورك أستعجبك"، ومن يطالع التقارير الأخيرة الصادرة عن بعض المؤسسات المالية، ومنها "غولدمان ساكس" قد يستنتج أنهم إمّا يعيشون في عالمٍ افتراضي، أو أنّ تقاريرهم لا تأخذ في الاعتبار الأرقام والتطوّرات الحديثة التي تحدث على الأرض، أو أن توقعاتهم تستند إلى تقارير وأرقام رسمية غارقة في التفاؤل.