في مشهد بات مألوفًا خلال العقد الأخير، أُعلن يوم  5يوليو 2025 عن توقيع مجموعة "العرجاني" المصرية، المعروفة بقربها من السلطة في القاهرة، عدة عقود ضخمة مع صندوق تنمية وإعادة إعمار ليبيا، التابع لحكومة شرق ليبيا الموالية لخليفة حفتر، لتنفيذ مشاريع بنية تحتية تشمل طرقًا وجسورًا وشبكات صرف صحي في مدن مثل بنغازي ودرنة وسرت.

ورغم المظهر التنموي الظاهري، إلا أن أصواتًا عديدة في الداخلين الليبي والمصري تساءلت: هل نحن أمام خطة إعمار حقيقية... أم "سبوبة" إقليمية جديدة تخدم مصالح أنظمة وحلفاء أكثر من شعوب؟

 

سبوبة جديدة تحت غطاء التنمية

يرى الاقتصاديون أن هذه العقود التي تشمل إنشاء طرق وجسور وشبكات صرف صحي ليست سوى واجهة لإثراء نخبة سياسية وعسكرية على حساب المواطن الليبي، في ظل غياب الشفافية والمساءلة الحقيقية، فمشاريع البنية التحتية، التي يُفترض أن تكون دعامة أساسية للتنمية، تحولت إلى أدوات تحكم واستغلال، حيث تُمنح عقودها لشركات مرتبطة بالدوائر الحاكمة أو المقربين منها، مثل مجموعة "العرجاني" التي وقعت معها الصندوق، دون أي رقابة حقيقية على جودة التنفيذ أو التكاليف.

 

وشملت العقود تنفيذ 11 مشروعًا بنيويًا، أبرزها:

  • إنشاء جسرين جديدين في مدينة بنغازي لتخفيف الزحام المروري.
  • توسعة الطريق الساحلي الدولي الممتد من سرت إلى طبرق.
  • تأهيل شبكات الصرف الصحي في أحياء عدة من مدينة درنة التي تعرضت لدمار هائل بعد إعصار دانيال في سبتمبر 2023.
  • إنشاء شبكة مياه حديثة في مناطق الجنوب.

 

تمويل بمئات الملايين من الدولارات

وفقًا للبيان الرسمي الصادر عن الصندوق، فإن إجمالي قيمة العقود الموقعة يتجاوز 420 مليون دولار أميركي، وستمول عبر مخصصات حكومية ليبية مباشرة ضمن الميزانية المعتمدة لإعادة الإعمار، بالإضافة إلى قروض ميسرة واتفاقات تمويل ثنائية.

ومن المتوقع أن تبدأ عمليات التنفيذ خلال الربع الأخير من عام 2025، على أن تنتهي معظم المشاريع خلال 24 إلى 36 شهرًا.

وقال المدير العام للصندوق، القاسم خليفة حفتر، إن “هذه العقود تمثل تحولًا نوعيًا في إستراتيجية إعادة الإعمار، إذ ننتقل من مرحلة التخطيط والدراسات إلى مرحلة التنفيذ الفعلي".

وأضاف أن "اختيار مجموعة العرجاني جاء بعد تقييم فني واقتصادي دقيق لقدرتها على تنفيذ مشروعات مماثلة داخل مصر وفي بعض دول أفريقيا، وهو ما يمنحنا الثقة في تحقيق نتائج سريعة وفعالة".

 

ما الذي تخفيه هذه الصفقات من فساد؟!

تتزامن هذه العقود مع تقارير رسمية تشير إلى عجز مالي كبير في الميزانية الليبية، حيث أعلن مصرف ليبيا المركزي عن عجز بقيمة 5 مليارات دولار في النصف الأول من 2025 رغم ارتفاع الإيرادات النفطية التي بلغت 11.6 مليار دولار.

هذا التناقض يثير تساؤلات حول مصير الأموال العامة التي يتم ضخها في هذه المشاريع، وهل تذهب فعلاً لتحسين البنية التحتية أم تُختلس في حسابات مجهولة؟ كما أن استمرار توقيع عقود مع شركات تركية ومصرية، في ظل تحكم حفتر والسيسي في المشهد السياسي والاقتصادي، يعكس شبكة مصالح إقليمية تتقاسم النفوذ والمال على حساب الشعب الليبي

 

استغلال الأزمة السياسية والاقتصادية

يشار إلى أن هذه الصفقات تأتي في سياق صراع نفوذ بين حكومتي الشرق والغرب في ليبيا، حيث يستخدم كل طرف أدوات اقتصادية للتمدد السياسي، ما يفاقم من حالة الانقسام ويحول التنمية إلى ساحة للمناكفات والصفقات المشبوهة.

ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون مشاريع مثل الطريق الدائري الثالث في طرابلس وسيلة لتخفيف معاناة المواطنين، تتوقف هذه المشاريع أو تُعطّل لأسباب سياسية، بينما تُستغل كوسيلة لتمويل أذرع سياسية وعسكرية.

 

تصريحات معارضة وتحذيرات من استغلال السلطة

قال أحد النواب المعارضين إن "هذه العقود ليست إلا استمرارية لنهج الفساد الذي يمارسه نظام السيسي وحفتر، حيث تُستخدم الأموال العامة كغنائم تُقسم بين النخب الحاكمة وشركاتها الخاصة، بينما المواطن الليبي لا يرى أي تحسن حقيقي في حياته اليومية".

وأضاف أن "الشفافية غائبة تماماً، ولا توجد رقابة حقيقية على تنفيذ هذه المشاريع، مما يفتح الباب أمام الفساد والمحسوبية".

كما حذر اقتصاديون مستقلون من أن استمرار هذه الصفقات المشبوهة سيزيد من تفاقم الأزمة المالية في ليبيا، ويعمق الفقر والبطالة، مشيرين إلى أن الحل الحقيقي يكمن في إصلاح شامل للنظام السياسي والمالي، وإرساء مؤسسات رقابية مستقلة تضمن توزيع الموارد بشكل عادل وفعّال.

 

دور مصر وحفتر في تعميق الأزمة

من زاوية أخرى، يرى مراقبون أن تدخل نظام الانقلاب المصري بقيادة السيسي في الشأن الليبي، عبر دعم حفتر وتسهيل صفقات اقتصادية مع شركات مصرية، هو جزء من استراتيجية إقليمية تهدف إلى السيطرة على مقدرات ليبيا وثرواتها النفطية.

هذه الاستراتيجية لا تخدم الشعب الليبي بل تعزز من بقاء نظامين مستبدين يستغلان الأزمات لتحقيق مكاسب شخصية وسياسية، على حساب التنمية الحقيقية والاستقرار.

توقيع عقود البنية التحتية مع مجموعة "العرجاني" وشركات أخرى لا يمكن فصله عن السياق السياسي والاقتصادي الذي يهيمن عليه فساد النظامين في مصر وليبيا، هذه الصفقات، التي تُعلن على أنها مشاريع تنموية، تخفي وراءها شبكة مصالح مالية وسياسية تكرس الانقسام وتستنزف الموارد العامة.