في ظل الانهيار الاقتصادي المتواصل الذي تشهده مصر منذ انقلاب 3 يوليو 2013 بقيادة عبد الفتاح السيسي، تفاقمت أزمة أسعار السلع الأساسية وعلى رأسها منتجات الألبان، فقد أعلنت شركتا "دانون" الفرنسية و"المراعي" السعودية، مطلع يوليو 2025، عن زيادات جديدة في أسعار منتجاتها داخل السوق المصرية بنسبة تتراوح بين 15% و22%، وهي الزيادة الخامسة خلال أقل من عامين، يأتي ذلك في وقت يعاني فيه المواطن المصري من موجات تضخم متتالية، وغياب أي دعم حقيقي للأسر محدودة الدخل.
"تصب في المصلحة".. التبرير السحري للحكومة
اللافت أن هذه الزيادات جاءت بعد تصريحات إعلامية متكررة لمسؤولين في حكومة السيسي بأن "ارتفاع الأسعار يصب في مصلحة المواطن"، وهي العبارة التي تحولت إلى أداة للسخرية الشعبية بعد أن تكررت لتبرير قرارات رفع الدعم أو فرض الضرائب أو تعويم الجنيه.
ففي 3 يوليو الجاري، قالت المتحدثة باسم وزارة التموين إن "الزيادات تعكس التوازن في السوق وتصب في مصلحة الجودة"، دون أن تذكر شيئًا عن الأعباء المعيشية، ويبدو أن عبارة "تصب في المصلحة" أصبح الشعار غير الرسمي لنهج حكومي لا يتوقف عن سحق الطبقة المتوسطة والفقيرة.
الشركات الأجنبية لا تخسر في مصر
من المثير للتساؤل أن شركتي "دانون" و"المراعي" سجلتا أرباحًا ضخمة خلال الربع الأول من 2025 رغم الأزمة الاقتصادية المصرية، فقد أعلنت "دانون" في تقريرها المالي الأخير أن مبيعاتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفعت بنسبة 9.3%، مدفوعة بتحرير سعر الصرف في مصر وارتفاع الطلب على المنتجات المستوردة.
أما "المراعي"، فذكرت في تقريرها الصادر في مايو 2025 أن أرباحها في السوق المصرية ارتفعت بنسبة 14.7% عن العام الماضي، مشيدة بـ"التسهيلات الحكومية" التي حصلت عليها.
أين الرقابة؟
رغم هذه القفزات غير المبررة في الأسعار، تواصل الأجهزة الرقابية في مصر غيابها التام عن المشهد، مكتفية بتصريحات شكلية عن "متابعة الأسواق".
فحتى منتصف 2024، لم يصدر جهاز حماية المستهلك أو جهاز المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية أي تقرير جاد بشأن سيطرة شركات أجنبية على سوق حيوية كالألبان.
بل إن الدولة تبدو وكأنها توفر لهذه الشركات غطاءً سياسياً وتشريعياً لتواصل رفع الأسعار، في الوقت الذي تتشدد فيه ضد أصحاب الأكشاك والمحال الصغيرة الذين يرفعون أسعار الزبادي المحلي نصف جنيه.
تسببت هذه الزيادات في إقصاء الألبان من موائد ملايين المصريين، بعد أن كانت من أساسيات الفطور والعشاء، فوفقًا لدراسة صادرة عن مركز معلومات مجلس الوزراء في أبريل 2025، انخفض متوسط استهلاك الفرد من اللبن ومنتجاته بنسبة 27% منذ بداية 2023، وهو ما دفع بعض المدارس الحكومية إلى وقف توزيع اللبن المجاني لتلاميذ المرحلة الابتدائية بسبب "العبء المالي"، بحسب تصريح لمسؤول بوزارة التعليم في يونيو الماضي.
في حين أكد اقتصاديون أن استمرار هذه الزيادات يعني تدهورًا جديدًا في صحة الأطفال، وزيادة في معدلات سوء التغذية.
السياسات الفاشلة خلف كل أزمة
إن ما يحدث في قطاع الألبان هو مجرد تجلٍّ لأزمة أعمق تعكس فشل نظام السيسي الانقلابي في إدارة الاقتصاد الوطني، فمنذ استيلائه على السلطة، اتبع النظام سياسات تعتمد على الاستدانة المفرطة، وتحرير الجنيه، ورفع الدعم، وبيع الأصول، دون النظر إلى الأثر الاجتماعي.
وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في مارس 2025، فإن الدين الخارجي لمصر تجاوز 171 مليار دولار، في حين بلغ معدل التضخم الرسمي 36%، وهو الأعلى في تاريخ البلاد الحديث، أما المواطن، فهو يدفع الثمن مرتين؛ مرة في غلاء المعيشة، ومرة في الإذلال اليومي للحصول على احتياجاته الأساسية.
من يدفع "فاتورة تصب في المصلحة"؟
لا يبدو أن هناك من يدفع "الفاتورة" في مصر سوى المواطن، أما الشركات الكبرى، سواء محلية أم أجنبية، فتنعم بالتسهيلات والدعم الضريبي وحرية التسعير، وبينما يتحدث النظام عن "الجمهورية الجديدة"، يعيش الملايين في جمهورية الجوع، حيث أصبح اللبن ترفًا، والزبادى علامة على الرفاهية، وعبارة "تصب في المصلحة" مرادفًا للتلاعب بالعقول.
السؤال الذي يطرحه الشارع اليوم: إذا كان كل هذا يصب في المصلحة، فمتى نشعر ببركة هذا الصب؟ وهل يمكن لشعب مسحوق أن يعيش على الشعارات وحدها؟