منذ تأسيس مجلس الشيوخ المصري عقب تعديل الدستور عام 2019، عملت أجهزة المخابرات العامة وتحديدًا "قطاع الأمن السياسي" في جهاز المخابرات - على إحكام السيطرة على تركيبة المجلس بما يخدم أهداف نظام عبد الفتاح السيسي.
وتأتي هذه "الهندسة السياسية" ضمن خطة أوسع للحد من أي تمثيل شعبي حقيقي أو قوى معارضة مستقلة، في مقابل تعزيز نفوذ الأحزاب والأشخاص الموالين للنظام العسكري.
تمثلت إحدى أدوات هذه الخطة في القانون رقم 141 لسنة 2020 الخاص بمجلس الشيوخ، والذي منح السيسي حق تعيين ثلث أعضاء المجلس (100 عضو من أصل 300)، مما أتاح له فرض توازن محسوب ومضمون لصالح نظامه الانقلابي.
أما بقية الأعضاء فيتم انتخابهم عبر نظام مختلط من القوائم المغلقة والفردي، في دوائر تم رسمها خصيصًا لتعزيز حضور الموالين للسلطة.
"القائمة الوطنية".. واجهة النظام الحزبي المصطنع
في انتخابات مجلس الشيوخ الأخيرة عام 2020، برزت "القائمة الوطنية من أجل مصر" كمظلة انتخابية شكلتها المخابرات لاحتواء الأحزاب المؤيدة للانقلاب وتنسيق التوزيع الداخلي للحصص.
ضمت القائمة أحزابًا أبرزها: مستقبل وطن، الشعب الجمهوري، الوفد، المصري الديمقراطي، التجمع، الإصلاح والتنمية، المؤتمر، وحماة الوطن.|
وقد قادت هذه القائمة حملة انتخابية شبه احتكارية، منعت عمليًا أي فرص للمستقلين أو حتى لأحزاب كانت تُصنَّف ضمن المعسكر المدني المعارض.
وحصلت القائمة في النهاية على كافة مقاعد نظام القائمة (100 مقعد)، دون وجود منافسين حقيقيين، وهو ما دفع مراقبين لوصف الانتخابات بأنها "تعيينات مقنّعة".
حزب مستقبل وطن.. ذراع المخابرات في البرلمان
أُسّس حزب "مستقبل وطن" عام 2014 بدعم مباشر من جهاز المخابرات، وأصبح في أقل من عقد القوة السياسية الأكبر داخل المجالس التشريعية.
في انتخابات الشيوخ الأخيرة، حصد الحزب 59 مقعدًا من مقاعد المجلس، إضافة إلى عدد من المعينين المحسوبين عليه ضمن الثلث الرئاسي.
رئيس الحزب، النائب أشرف رشاد، يحظى بعلاقات وثيقة مع دوائر القرار في مؤسسة الرئاسة والمخابرات، ويُعد الحزب الآلية الأهم لتمرير القوانين الداعمة للسلطة، وتفكيك أي محاولة معارضة من داخل المنظومة.
دور مجلس الشيوخ وأثره السياسي
يُعتبر مجلس الشيوخ غرفة برلمانية صورية بلا صلاحيات تشريعية أو رقابية حقيقية، إذ يقتصر دوره على إبداء الرأي غير الملزم في مشاريع القوانين، ولا يناقش قضايا هامة تتعلق بالسياسة العامة أو الحقوق والحريات.
وقد ظل المجلس أقل صلاحية من مجلس الشورى السابق في عهد حسني مبارك، حيث ألغيت بعض الصلاحيات التي كانت تلزم بعرض القوانين المكملة للدستور عليه، مما يعكس دوره الرمزي في دعم النظام أكثر من كونه مؤسسة فعالة.
صراعات الأجنحة.. تنافس أذرع السيسي على النفوذ السياسي
رغم وحدة المظهر العام للنظام، يعاني نظام السيسي ومؤسساته من صراعات داخلية عميقة بين أجنحة مختلفة داخل "الدولة العميقة" خاصة بين المخابرات العامة، فهناك خلافات بين أجنحة الأمن الوطني التابع للداخلية، وفلول نظام مبارك، ورجال الأعمال الذين لا يزالون يسيطرون على مفاصل الدولة الاقتصادية والسياسية
وقد انعكس هذا الصراع في محاولات كل طرف دعم أسماء معينة للترشح لمجلس الشيوخ أو فرض شخصيات بعينها ضمن قوائم التعيين الرئاسي.
بحسب تسريبات، اشتدت الخلافات قبل انتخابات 2020، حيث رفض الأمن الوطني ترشيحات تقدمت بها المخابرات لأسماء محسوبة على رجال أعمال سابقين من نظام مبارك، ما أدى إلى تدخل مباشر من السيسي لحسم توزيع الحصص.
أحزاب الكارتون.. منابر بلا جماهير
تُعاني الأحزاب المشاركة في "القائمة الوطنية" من انعدام الشعبية في الشارع، وتعتمد بشكل شبه كامل على دعم أجهزة الأمن.
على سبيل المثال، لم تتمكن أحزاب مثل "المؤتمر" و"التجمع" و"الإصلاح والتنمية" من تنظيم مؤتمرات جماهيرية حقيقية، واعتمدت على تمويلات حكومية وتوجيهات مخابراتية لترشيح أعضائها في المناطق المختارة مسبقًا.
في مجلس الشيوخ الحالي، حصل حزب الشعب الجمهوري على 17 مقعدًا، فيما حاز "الوفد" على 10 مقاعد، و"حماة الوطن" على 9 مقاعد، بينما توزعت المقاعد المتبقية على الأحزاب الأخرى، غالبًا ضمن اتفاقات غير معلنة لتقاسم النفوذ.
مجلس بلا معارضة
بلغت نسبة المشاركة في انتخابات مجلس الشيوخ 2020 نحو 14% فقط وفق الهيئة الوطنية للانتخابات المعينة من قِبل نظام الانقلاب ذاته، ما يعكس عزوفًا شعبيًا واسعًا عن العملية السياسية، وغياب الثقة في مؤسسات يُنظر إليها كامتداد مباشر لأجهزة الحكم العسكري.
ومن بين الـ300 عضو، لم يحصل أي تيار معارض حقيقي على تمثيل يُذكر، كما جرى التضييق على مرشحين مستقلين مثل الصحفي عبد العظيم حماد والحقوقي خالد داود الذين استُبعدوا مبكرًا من الترشح أو لم تُقبل أوراقهم، وهو ما أكد أن المجلس مجرد غرفة صدى للسلطة التنفيذية.
مجلس بقبضة المخابرات
يبدو أن مجلس الشيوخ، كما أراده نظام الانقلاب، ليس سوى غرفة ديكور سياسي يديرها السيسي عبر شبكة محكمة من الولاءات الأمنية، فلا تداول حقيقي، ولا رقابة على الحكومة، ولا حتى نقاش سياسي، بل دعم مطلق لقرارات الرئاسة والبرامج الاقتصادية المجحفة مثل رفع الدعم وخصخصة الممتلكات العامة.
وفي ظل استمرار هذه السياسات، تبقى أي دعوات للانتخابات مجرد شكليات، في نظام تحكمه الأجهزة الأمنية وتتنافس داخليًا على الغنائم لا على المصلحة العامة.