في سابقة تاريخية لم تشهدها مصر حتى في أعتى عصور الاستبداد، لم يعد طريق "الداعية" أو "الإمام" يمر عبر أروقة الأزهر الشريف وقاعات كليات أصول الدين فحسب، بل بات لزاماً عليه أن يمر أولاً عبر بوابات "أكاديمية ناصر العسكرية" (الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية).
المشهد الذي يرسمه نظام الانقلاب الآن يتجاوز فكرة "تجديد الخطاب الديني" التي صدّع بها الرؤوس، ليكشف عن خطة ممنهجة لـ "عسكرة العقل الديني"، حيث يُستبدل فقه "المقاصد" بـ "فقه الأمن القومي"، ويتحول الإمام من "وريث للأنبياء" إلى "مشروع مجند" يتلقى الأوامر في طابور الصباح العسكري.
آخر فصول هذه المهزلة ما كشفت عنه تقارير حديثة عن تشكيل "لجنة علمية" أو مجلس علمي داخل الأكاديمية العسكرية للإشراف على الدراسات العليا للأئمة، برئاسة وزير الأوقاف "شكلياً"، بينما الإدارة والتوجيه الفعلي بيد الجنرالات. هذا التطور يعني ببساطة سحب البساط من تحت أقدام المؤسسات الدينية العريقة، ونقل "المرجعية الإدارية والفكرية" للدعوة الإسلامية من "المشيخة" إلى "الثكنة".
من "التجديد" إلى "التجنيد".. صناعة "الإمام الاستراتيجي"
لم تعد دورات الأكاديمية العسكرية للأئمة مجرد "برامج تثقيفية" اختيارية، بل تحولت إلى ممر إجباري للتعيين والترقي. المئات من الأئمة والوعاظ يجدون أنفسهم اليوم داخل معسكرات مغلقة، يستيقظون فيها فجراً لا لصلاة التهجد، بل لأداء "طابور اللياقة البدنية" وتلقي التمام العسكري. الهدف المعلن هو "صقل الشخصية"، أما الحقيقة فهي عملية "غسيل مخ" ممنهجة تهدف لإنتاج ما يسميه النظام بـ "الإمام الاستراتيجي" أو "الإمام المحصن".
هذا المصطلح الجديد الذي يروج له وزير الأوقاف، يعني عملياً إماماً لا يرى الدين إلا من منظور "الجنرال". فالمناهج التي تُدرس داخل الأكاديمية لا علاقة لها بتفسير القرآن أو السنة، بل تركز على "حروب الجيل الرابع"، و"مخططات إسقاط الدولة"، و"فقه الطاعة العمياء". والنتيجة هي مسخ مشوه؛ داعية يرتدي الزي الأزهري لكنه يتحدث بلسان "الشؤون المعنوية"، مهمته الأساسية ليست هداية الناس، بل تبرير سياسات النظام، وقمع أي صوت معارض باسم "حماية الأمن القومي".
"فلترة" العقول.. عقيدة أمنية بديلة للعقيدة الشرعية
تصريحات المتحدث باسم وزارة الأوقاف الأخيرة جاءت لتزيل ورقة التوت، حين اعتبر أن "تجديد الخطاب الديني يبدأ بفرز العقول". هذا "الفرز" الذي يتحدث عنه لا يتم بناءً على الكفاءة العلمية أو الحفظ للقرآن، بل بناءً على الولاء الأمني والخضوع لتدريبات الأكاديمية. النظام لا يريد علماء يفكرون أو يناقشون قضايا الفقر والعدالة الاجتماعية من منظور إسلامي، بل يريد موظفين برتبة "وعاظ" يرددون "سكريبت" موحد يكتب في الغرف الأمنية المغلقة.
لقد تحولت الأكاديمية العسكرية إلى "فلتر" ضخم يمر عبره كل من يرغب في اعتلاء المنبر. ومن لا يجتاز "اختبارات الولاء" أو يُظهر أي بادرة استقلال فكري، يتم استبعاده فوراً. وبذلك، تضمن "حكومة العسكر" أن منابر مصر الـ 150 ألفاً لن يخرج منها صوت واحد يغرد خارج السرب، أو يجرؤ على نقد الغلاء والفساد، لأن الإمام ببساطة أصبح يرى في نقد الحكومة "خيانة عظمى" وفقاً لما درسه في دورات "الأمن القومي".
انهيار استقلالية الأزهر.. الصمت المخزي
أخطر ما في هذه المعادلة هو الموقف المتخاذل للمؤسسة الدينية الرسمية. فبدلاً من أن يدافع الأزهر والأوقاف عن استقلالية الدعوة، انخرطا في توقيع "بروتوكولات تعاون" تُشرعن هذه الهيمنة العسكرية. لقد سلمت قيادات هذه المؤسسات مفاتيح "العقل الديني" طواعية للجنرالات، وارتضوا أن يكونوا مجرد "ديكور" في مجلس علمي يديره العسكر.
إن ما يجري في أكاديمية ناصر ليس مجرد تدريب، بل هو انقلاب ناعم على هوية مصر الدينية. إنه محاولة لخلق "دين جديد" مفصل على مقاس السلطة، دين لا يعرف "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" إلا في حدود ما تسمح به التقارير الأمنية. وبهذا، ينجح النظام فيما فشل فيه الاستعمار: تدجين العمامة وتحويلها من رمز للوقار والعلم إلى ترس صغير في ماكينة القمع العسكرية

