استغاثة الشابة السودانية التي تحدثت عن اشتراط ما يصل إلى 2800 دولار مقابل الحصول على الموافقات الأمنية لدخول مصر، لا تعكس حالة فردية، بل تلخص سياسة إهانة منظمة تمارسها سلطات الانقلاب ضد لاجئين وجيران يفترض أنهم “أشقاء”.

 

هذه الأرقام الفلكية لتحويل حق زيارة الأهل إلى صفقة ابتزاز أمني ومالي تكشف أن الحديث الرسمي عن “العلاقات التاريخية بين الشعبين” مجرد ستار لواقع عنصري واستغلالي على المعابر والمطارات.

 

من تأشيرة إلى “إتاوة” أمنية بمئات الدولارات

 

بدل أن تكون الإجراءات مجرد تأشيرة عادية ورسوم معلنة، تحولت الموافقات الأمنية للسودانيين إلى عبء مالي يصل إلى 2800 دولار، وفق ما تقوله الشابة في الفيديو المتداول، وهو مبلغ يتجاوز مدخرات معظم الأسر التي فرت أصلًا من حرب ودمار.

 

هذه المبالغ لا يمكن وصفها برسوم إدارية أو تكاليف خدمة، بل هي أقرب إلى إتاوة تُفرض على معاناة الناس، تُدفع مقابل أبسط حقوقهم الإنسانية في التنقل ولمّ شمل العائلة. هكذا تُحوِّل أجهزة الانقلاب الألم الإنسانى إلى مورد ريعي جديد، يُتاجر فيه بجواز المرور على حدود مصر.

 

 

إذلال ممنهج على أساس الجنسية واللون

 

القضية لا تتعلق بالمال فقط، بل بالكرامة؛ فشهادات سودانيين كُثر خلال الشهور الماضية تحدثت عن تمييز مهين في التعامل بالمطارات والمعابر، واشتراطات أمنية معقدة، وانتظار لساعات وأيام، في مقابل تسهيلات تُمنح لأجانب آخرين دون عناء.

 

تحويل السوداني إلى “ملف أمني” قبل أن يكون إنسانًا أو لاجئًا أو زائرًا، يعكس نظرة عنصرية متغطرسة من سلطة ترى في الفارين من الحرب فرصة للابتزاز لا مسؤولية أخلاقية وتاريخية. حين يضطر مواطن لأن يسجل فيديو يستغيث فيه لأنه لا يستطيع دفع “ثمن” رؤية أهله، فهذا إعلان واضح عن انهيار أي منطق للجوار أو الأخوة.

 

تجارة قذرة على أنقاض الحرب

 

بينما يفر الآلاف من جحيم القصف والقتل في السودان، تستغل شبكات السماسرة والوسطاء – التي لا تعمل إلا تحت عين أجهزة الأمن – حاجة الناس للمرور، فترفع الأسعار وتبيع “موافقات” و“ترتيبات” بمبالغ خيالية.

 

صمت حكومة الانقلاب عن هذه التجارة، وعدم خروجها لشرح آليات الموافقات الأمنية أو ضبط السماسرة، يعني عمليًا أن هذه السوق السوداء جزء من المنظومة لا شذوذًا عنها.

 

بدل أن تكون مصر ملاذًا آمنًا للهاربين من الحرب، تحولت بوابتها إلى سوق نخاسة حديثة: من يدفع يدخل، ومن يعجز يبقى عالقًا على الحدود أو مهددًا بالترحيل والإذلال.

 

خطاب رسمي ناعم وواقع قاسٍ على الحدود

 

إعلام السلطة لا يتوقف عن ترديد شعارات “احتضان الأشقاء السودانيين” و“فتح الأبواب أمام النازحين”، بينما الواقع يكشف عن تعقيد متزايد في الإجراءات، ورفع غير معلن لكلفة الدخول، وتضييق على الإقامات والتجديد.

 

هذه الفجوة بين الخطاب والواقع ليست صدفة؛ إنها سياسة مقصودة لتسويق صورة إنسانية للعالم، مع ترك الأجهزة تعمل بمنطق الجباية والاشتباه الأمني على الأرض. من يدفع ثمن هذا التناقض هم اللاجئون والساعون فقط لاحتضان أمهاتهم وآبائهم وأبنائهم لبضعة أيام، بعد شهور من الحرب والشتات.

 

2800 دولار ثمنًا للإنسانية المسلوبة

 

الموافقة الأمنية التي يصل ثمنها إلى 2800 دولار ليست مجرد رقم في فيديو، بل عنوان لمرحلة يتعامل فيها نظام الانقلاب مع الحدود كمنجم ذهب، ومع المكلومين كفرصة استثمار.

هذا المبلغ وحده كافٍ لفضح زيف كل خطابات “الأمن القومي” و“تنظيم الدخول”؛ إذ يتحول الأمن إلى سلعة، والحدود إلى بوابة من يدفع أكثر.

 

ما يطالب به السودانيون اليوم ليس امتيازًا خاصًا، بل حق بسيط: أن يتعاملوا كبشر لا كمصدر إيراد، وأن تُلغى هذه الإتاوات المقنَّعة، وتُعاد صياغة إجراءات الدخول في إطار شفاف، معلن، عادل، يحترم كرامة الناس ولا يحوّل آلامهم إلى فرصة للربح السريع لحكومة مأزومة تبحث عن الدولار في جيوب المنكوبين.