قضية عمال شركة "مفكو حلوان" للأثاث تكشف بوضوح كيف تتحول شعارات الحد الأدنى للأجور و"العدالة الاجتماعية" في زمن الانقلاب إلى حبر على ورق، بينما يُسحق من يجرؤ على المطالبة بحقه تحت أقدام الإدارة وأجهزة الدولة معًا.
ما جرى من منع العمال من دخول الشركة، ثم اتهامهم بالتغيب وتهديدهم بالفصل لمجرد أنهم لجأوا لمكتب العمل لتفعيل قرار رسمي بالحد الأدنى للأجور، يعكس نمطًا متكررًا: حكومة تتباهى بقرارات على الشاشات، ثم تصمت وتتواطأ عندما يطالب بها العمال في المصانع.
إنذارات فصل انتقامية بعد شكوى جماعية
في السادس من نوفمبر توجّه مئات العمال إلى مكتب العمل بحلوان لتحرير شكوى جماعية ضد إدارة "مفكو حلوان" لامتناعها عن تطبيق الحد الأدنى للأجور المقرر بـ7 آلاف جنيه، بينما تتراوح رواتبهم بين 3300 و4000 جنيه فقط. الشركة، بدلًا من الالتزام بقرار رسمي يفترض أنه ملزم، ردّت بعقاب جماعي؛ فمنعت أكثر من 20 عاملًا من دخول المصنع بعد ظهورهم في صور وفيديوهات أمام مكتب العمل، في رسالة واضحة: من يطالب بحقه يُسقط من حسابات الإدارة.
هذه الممارسات تعني أن صاحب العمل يتعامل مع القانون وكأنه اقتراح اختياري، ومع مكتب العمل كديكور، ومع العمال كأرقام يمكن التخلص منها متى حاولوا الدفاع عن حقوقهم.
منع من الدخول ثم اتهام بالتغيب: استهزاء بالقانون
الأخطر أن الإدارة لم تكتفِ بإغلاق الأبواب في وجوه العمال، بل بدأت في إرسال إنذارات بالفصل بدعوى "التغيب عن العمل"، رغم أن المنع من الدخول صادر من جانب الشركة نفسها.
هذا التلاعب الفج يحوّل القانون من أداة لحماية الطرف الأضعف إلى سلاح في يد صاحب العمل ينسج به رواية قانونية مزيفة لتصفية من يراهم "مزعجين".
حين يُمنع العامل من دخول مصنعه، ثم تُستخدم أيام منعه كدليل على "غيابه" تمهيدًا لفصله، فهذه ليست مجرد مخالفة إدارية بل جريمة مكتملة الأركان ضد أبسط معايير العدالة وكرامة الإنسان العامل.
وزارة العمل: مفاوضات شكلية بلا تنفيذ
حضور لجنة من وزارة العمل منتصف نوفمبر وعقد جلسة مفاوضة جماعية مع ممثلي العمال كان يمكن أن يكون نقطة تحول لو كانت الوزارة جادة في فرض تطبيق قرار الحد الأدنى للأجر واشتراطات السلامة.
الإدارة التزمت أمام اللجنة بتطبيق الحد الأدنى على أجر نوفمبر، وصرف بدل مخاطر وتطبيق معايير الصحة المهنية، لكن ما حدث فعليًا أن رواتب نوفمبر صُرفت بلا أي زيادة، وكأن ما جرى في الجلسة مجرد تمرين علاقات عامة لا أكثر.
تواصل العمال مجددًا مع مكتب العمل والوزارة لإبلاغهم بعدم الالتزام، لكنهم واجهوا صمتًا رسميًا، في تأكيد جديد على أن الدولة تقف عمليًا في صف صاحب العمل، وتترك العمال وحدهم في مواجهة الفصل والتجويع.
عقاب متكرر لكل من يضرب أو يحتج
سياسة تصفية "رؤوس" العمال النشطين ليست جديدة في "مفكو حلوان"، بحسب روايات العمال أنفسهم؛ فالشركة سبق أن فصلت عددًا من العمال في فبراير الماضي لمشاركتهم في إضراب استمر 8 أيام للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، ولا تزال دعاواهم منظورة أمام المحكمة.
هذا يعني أن الإدارة تمارس منهجًا ثابتًا: كل تحرك جماعي يُقابَل بالفصل والترهيب، مع الرهان على طول وتعقيد مسار التقاضي، وعلى غياب حماية نقابية حقيقية. في ظل غياب اتحاد عمال مستقل، وتحول النقابات الرسمية إلى أذرع للسلطة، يصبح كل عامل يطالب بحقه مشروع "ضحية منفردة" يمكن التضحية به دون ضجة كبيرة.
دولة تتغنى بالاستثمار وتصمت عن استغلال العمال
على موقعها الرسمي، تقدم "مفكو حلوان" نفسها باعتبارها من أكبر خطوط الإنتاج في الشرق الأوسط، وبأحدث الماكينات وبشراكات ألمانية، في خطاب تسويقي ينسجم تمامًا مع لغة النظام عن "جذب الاستثمار" و"تطوير الصناعة".
لكن خلف هذه الواجهة البراقة يقف واقع أجر يتراوح بين 3300 و4000 جنيه في ظل تضخم وأسعار قاتلة، ورفض لتطبيق حد أدنى أقرته الدولة نفسها، ومعاقبة من يطالب به بالفصل والتهديد. بذلك يتضح أن نموذج "المستثمر الوطني" الذي يحتفي به إعلام الانقلاب لا يقوم على الشراكة مع العمال، بل على سحقهم، وأن وزارة العمل تُستخدم لتسكين الأزمات لا لحماية من يفترض أنها مسؤولة عنهم.
الحد الأدنى للأجور… قرار للاستهلاك الإعلامي
القصة هنا ليست عن شركة واحدة فقط، بل عن بنية حكم تستخدم الحد الأدنى للأجور كشعار لتهدئة الغضب الشعبي، ثم تتغاضى عن تطبيقه على الأرض.
لو كانت حكومة الانقلاب جادة في تنفيذ قرار الـ7 آلاف جنيه، لكانت وزارة العمل تحركت فورًا ضد "مفكو حلوان" وأوقفت إنذارات الفصل وأجبرت الإدارة على صرف الفروق بأثر رجعي، لا أن تكتفي بجلسة تفاوض صورية ثم تصمت عن عدم التنفيذ. بهذا المعنى، يتحول الحد الأدنى إلى وعد انتخابي دائم بلا مضمون، ويُترك العامل ليختار بين الصمت مقابل الفتات، أو المطالبة بحقه مقابل الفصل والتشهير.
عمال “مفكو حلوان” مرآة لواقع أوسع
ما يتعرض له عمال "مفكو حلوان" ليس استثناءً بل نموذجًا مكثفًا لوضع العمال في مصر: تضخم يلتهم الأجور، وحد أدنى غير مطبق أو يُلتف حوله، ووزارة عمل عاجزة أو متواطئة، وقضاء بطيء، وإعلام رسمي يتحدث ليل نهار عن "الجمهورية الجديدة" بينما يعيش العمال في جمهورية الخوف من الفصل.
إذا كان النظام يفاخر بمصانع كبرى وخطوط إنتاج حديثة، فإن المعيار الحقيقي لجدية أي مشروع صناعي هو احترام حقوق العامل الذي يُدير هذه الماكينات، لا عدد الصور على مواقع الشركات ولا حجم التصريحات الوزارية. في ظل هذا الواقع، تصبح قضية "مفكو حلوان" دعوة مفتوحة لتحويل ملف الحد الأدنى للأجور وحرية التنظيم العمالي إلى قضية سياسية مركزية، لا مجرد نزاع عمالي يُدفن في أروقة مكاتب العمل والمحاكم.

