لم يكن مستغرباً أن يتحول مشروع "ممشى أهل مصر"، الذي سوّق له نظام الانقلاب ليل نهار باعتباره "هدية الرئيس" للمصريين ومتنفسهم الحضاري الوحيد على النيل، إلى بؤرة فساد جديدة تفوح منها روائح التربح وإهدار المال العام..
فبعد سنوات قليلة من الافتتاح الصاخب، سقط القناع عن الوجه الحقيقي للمشروع: "سبوبة" بمليارات الجنيهات لصالح فئة محدودة من المنتفعين، بينما يدفع الشعب فاتورة التلوث والديون. واليوم، تكشف تحقيقات نيابة الأموال العامة عن كارثة مالية وإدارية تقدر بـ 650 مليون جنيه، لتضيف سطراً جديداً في كتاب فساد "الجمهورية الجديدة".
"ممشى الأغنياء".. من متنفس للشعب إلى "مول" مغلق
بينما كان المواطن البسيط يحلم بمساحة خضراء مجانية تطل على نيله، كانت ماكينة "البيزنس" العسكري والمدني تدور في الخفاء لتحويل الممشى إلى مشروع تجاري بحت. الوثائق التي فجّرها نواب البرلمان تكشف عن تحويل مساحات شاسعة من الممشى - بالمخالفة للمخطط الأصلي - إلى سلسلة مطاعم وكافيهات ومراسي عائمات سياحية لا يرتادها إلا أصحاب "الكاش".
لقد تم اختطاف النيل، وتحويل ضفافه إلى "كانتونات" مغلقة ومؤجرة من الباطن، في عملية سطو ممنهجة على الفضاء العام. وبدلاً من أن يستمتع المواطن بنسمة هواء نظيفة، وجد نفسه محاصراً ببوابات ورسوم دخول ولوحات إعلانية تحجب عنه رؤية المياه، وكأن النيل أصبح ملكية خاصة لجنرالات المقاولات وشركائهم.
650 مليون جنيه.. أين ذهبت أموال الشعب؟
الرقم الصادم الذي كشفت عنه طلبات الإحاطة - 650 مليون جنيه مخالفات - ليس مجرد خطأ محاسبي، بل هو دليل دامغ على الفساد المؤسسي. تتحدث المستندات عن "تأخر توريد مستحقات الدولة"، و"عقود إيجار مشبوهة" لم تدخل عوائدها الخزانة العامة، واستغلال مساحات دون تراخيص لتحقيق أرباح خاصة.
السؤال الذي يطرح نفسه: من هي الشركة "المحظوظة" التي أُسندت إليها إدارة المرحلة الأولى؟ ومن هم "الحيتان" الذين سمحوا لها بمخالفة التصميمات الهندسية والبيئية دون رقيب؟ إن هذا المبلغ الضخم المنهوب كان كافياً لتطوير مستشفيات متهالكة أو بناء مدارس تنهي مأساة التكدس، لكنه ذهب بدلاً من ذلك لجيوب الفاسدين الذين يديرون "دولة المقاولات" من خلف الستار.
"النيل يدفع الثمن".. كارثة بيئية تحت مسمى التطوير
لم يتوقف الفساد عند حد نهب الأموال، بل امتد لتدمير البيئة. فالتحقيقات تشير إلى كارثة هندسية تتمثل في تحويل الممشى لخدمة أنشطة تجارية كثيفة دون دراسات فنية، ما أدى إلى تحميل شبكات الصرف الصحي فوق طاقتها. النتيجة؟ تصريف مياه ملوثة ومخلفات مطاعم وعائمات مباشرة في شريان حياة المصريين.
تحت لافتة "التطوير الحضاري"، يتم تسميم النيل يومياً بمخلفات "البيزنس" العشوائي. العائمات التي رست بالمخالفة للقانون لا تحجب الرؤية فقط، بل تحولت إلى بؤر تلوث عائمة، ضاربة عرض الحائط بكل الاشتراطات البيئية، في ظل تواطؤ حكومي مفضوح يفضل "اللقطة" والربح السريع على صحة الملايين.
الخلاصة: فساد لا يسقط بالتقادم
إن فضيحة "ممشى أهل مصر" ليست حادثاً فردياً، بل هي نموذج مصغر لكيفية إدارة الدولة في عهد الانقلاب: مشاريع بلا دراسات جدوى، إسناد بالأمر المباشر، غياب للشفافية، ونتيجة نهائية كارثية يدفع ثمنها المواطن والبيئة والاقتصاد. حكومة مدبولي التي تطارد الفقراء على فواتير الكهرباء وتمنع الدعم عن مستحقيه، هي نفسها التي تغض الطرف عن إهدار مئات الملايين في مشاريع الواجهة.
إن فتح التحقيق في هذه المخالفات خطوة، لكنها لن تكتمل إلا بمحاسبة الرؤوس الكبيرة التي خططت ونفذت واستفادت. وحتى ذلك الحين، يظل "ممشى أهل مصر" شاهداً حياً على أن "التطوير" في قاموس العسكر لا يعني سوى "الاستيلاء والتربح"، وأن حقوق هذا الشعب في ماله ونيله وتراثه مستباحة حتى إشعار آخر.

