يستعرض الشيخ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب في كتابه الإسلام وهموم الناس، سنن ابتعاث المصلحين والمجددين في كل قرن، ليعيدوا إلى الأمة وعيها، ويذكّروها بدينها، رغم صدود العامة أحيانًا، ورغم الهجوم على أهل الإصلاح.
كما يبرز هذه السنّن العظيمة، ومعانيها وآثارها، مستشهدا بما حفظه التاريخ من مواقف عظيمة لأئمة قادوا التغيير، وسط السبات العام والفتور الجماهيري.
بعث المجددين: وعد إلهي لا يتخلّف
استند النص إلى الحديث النبوي الشريف: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها."
رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو نص صريح في أن الأمة لا تموت أبدًا، فحتى إن نامت، فإنها لا تُعدم المصلحين الذين يوقظونها من سباتها.
فالمجددون لا يُبعثون من فراغ، بل هم استجابة ربانية لحاجة الأمة حين تتعطل أجهزة التربية وتنحرف الآليات عن طريقها.
دور المصلحين: يقظة في وجه الغفلة
حين تغيب التربية، وتتراخى الدعوة، ولا يجد الناس من يذكّرهم بالله، فإن التاريخ يخبرنا أن هناك دومًا طائفة خيّرة تنهض. هؤلاء هم ورثة الأنبياء الذين لم يرضوا بالصمت، بل تبنوا هموم الناس وآلامهم، ودعوا إلى العودة إلى الله بعد غياب طويل.
وليس غريبًا أن يقابلهم الناس أحيانًا بالعداء والرفض، لكنهم ظلّوا ثابتين، لأنهم يعلمون أن التاريخ لا ينسى من صدق، وأن الله لا يخذل من قام له بالحجّة.
رفض العامة لا يلغي أثر الدعاة
الأنبياء أنفسهم وُوجهوا بالرفض، فكيف لا يُرفض الدعاة والمصلحون؟ لكن مع ذلك، فإن الأمة في أعماقها، تعرف قيمة الصادقين الذين ضحوا لأجلها.
وإن طال الزمان، تبقى سير هؤلاء محفوظة، يتناقلها الناس، ويحترمونها، ويجعلونها نماذج للقدوة والتضحية. فالدعاة الذين تصدوا للفوضى والانحراف، ظلّوا أعلامًا في وجدان الأمة، حتى لو لم ينتصروا في حياتهم.
هموم الناس جزء من الدين
النص يشير بوضوح إلى أن التبني لقضايا الناس ليس خيارًا ثانويًا، بل هو جزء من الإيمان الحقيقي، ومن مقتضيات فهم الدين فهمًا صحيحًا.
وقد ذهب بعض الأئمة إلى القول بأن عدم تبنّي قضايا الأمة كفر عملي أو تكذيب بالدين، لأن ذلك يعني الانفصال عن روح الإسلام الذي جاء لإقامة العدل، والدفاع عن الضعفاء، وتوجيه الناس نحو الحق.
من هنا، كان الصالحون دائمًا في الصف الأول، لا يكتفون بالعلم، بل ينزلون لساحات المواجهة والتربية والتغيير.
ساحات الأمة لا تخلو من المخلصين
رغم العصور الحالكة التي مرت بها الأمة، فإن التاريخ يشهد بصدق أن الساحة الإسلامية لم تخلُ أبدًا من الخُلّص من أبنائها، الذين تصدّوا للانحراف، وجددوا المعاني، ونادوا بالعودة إلى الله.
وهؤلاء وإن قلّ عددهم، فإن تأثيرهم عظيم، لأنهم يتحركون بدافع تعبدي، وبفهم عميق لرسالة الإسلام، ويتقنون الربط بين الإيمان والعمل، وبين العقيدة والواقع.
نماذج مشرقة: أئمة تبنوا هموم الأمة بصدق
1. الإمام أحمد بن حنبل: ثبات في وجه فتنة خلق القرآن
في واحدة من أعنف فتن التاريخ الإسلامي، وقفت الدولة العباسية موقفًا منحرفًا حين تبنت عقيدة المعتزلة القائلة بـ"خلق القرآن"، وأجبرت العلماء على القول بها.
الإمام أحمد بن حنبل، رغم التهديد والتعذيب والسجن، رفض أن يساير السلطة، ووقف مدافعًا عن العقيدة الصحيحة، متبنيًا همّ الأمة الديني والعقدي في وقت ساد فيه الصمت والخوف.
❖ موقفه لم يكن مجرد "رأي علمي"، بل موقف وجودي أنقذ الأمة من انحراف عقائدي خطير.
❖ قال عنه بعض العلماء: "ثبت الإمام أحمد يوم زل الناس، فكان إمامًا بحق."
2. الإمام العز بن عبد السلام: سلطان العلماء الذي باع السلطان لله
في زمن الفساد المملوكي، حين كان الحكام يتاجرون في المناصب الدينية، ويبيعون البلاد للأعداء، برز العز بن عبد السلام، العالم الشجاع، الذي رفض أن يهادن.
أفتى بوجوب بيع الأمراء الذين غزوا مصر بلا وجه حق، لأنهم لم يُحرروا رقابهم، ووصفهم بـ"العبيد"، مما أغضب السلطة.
❖ لم يكتفِ العز بالعلم، بل دخل ساحات المواجهة السياسية من منطلق ديني.
❖ لقّبه الناس بـ"سلطان العلماء" ولقّب الحكام بـ"عبيد الدينار والدرهم".
❖ موقفه جسّد تبنّي قضية الأمة ضد الاستبداد الداخلي والاحتلال الخارجي.
3. شيخ الإسلام ابن تيمية: الجهاد بالفكر والسيف في زمن الانحطاط
في أزمنة اجتمعت فيها الغزوات التتارية والانحرافات العقدية، وقف ابن تيمية شامخًا، مدافعًا عن صفاء التوحيد، ومحاربًا للبدع، وناصحًا للحكام.
لم يكن فقيهًا منزويا، بل شارك في الجبهات بنفسه، وكان يؤلف في الأسر، ويخطب في ساحات المعارك، ويحرض الناس على مقاومة الظلم والغزو.
❖ واجه السلاطين، والمخالفين، وأُوذِي وسُجن مرارًا، لكنه لم يتراجع.
❖ مثّل نموذجًا حيًّا للعالم الذي لا يفصل بين العلم والواقع، ولا بين الدين وهمّ الأمة.
4. الإمام حسن البنا: مشروع نهضوي شامل في وجه الاستعمار والتبعية
في زمن الاحتلال البريطاني، والانحدار الفكري والروحي، أسّس حسن البنا حركة الإخوان المسلمين، ليست فقط حركة دعوية، بل مشروعًا شاملًا لنهضة الأمة.
تبنّى هموم الناس من إصلاح التعليم، ومحاربة الاستعمار، ومحاولة بعث روح العمل الإسلامي الجماعي.
❖ كان شعاره: "الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف."
❖ اغتيل غدرًا بعد أن تحوّلت حركته إلى قوة شعبية تخشاها السلطة.
❖ يُعدّ من أبرز رموز تبنّي قضايا الأمة بروح معاصرة ومنهجية شاملة.
5. سيد قطب: مفكرٌ قدّم روحه فداءً لفكرة التحرر من الطغيان
سيد قطب، الأديب والمفكر الإسلامي، تبنّى في كتاباته قضية التحرر من الجاهلية السياسية والفكرية، وفضح أنظمة الحكم الظالمة، فكان مصيره الإعدام على يد نظام عبد الناصر.
❖ رغم كل ما قيل عنه، يبقى رمزًا لـ رفض المساومة، وتحدي الطغيان الفكري والسياسي.
❖ كلماته ما زالت تلهم أجيالًا من الشباب الباحث عن الكرامة والعزة.
❖ قال في وصيته: "إن السبابة التي تشير إلى توحيد الله، تأبى أن تكتب حرفًا واحدًا تقر به حكم الطاغوت."
الأمة لا تموت.. وإن طال السبات
هذه النماذج وغيرها كثير، تؤكد أن الأمة لا تخلو من المصلحين، وأن سنة الله في بعث المجددين باقية، مهما غابت التربية، ومهما اشتد الظلم، ومهما ساد الجهل والتواكل.
ففي كل جيل، هناك من يقاوم، ويفضح، ويجدد، ويدفع الثمن، ليبقى الدين حيًا في القلوب، والكرامة مرفوعة في وجه الطغيان.

