يواصل عمال شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالقاهرة احتجاجاتهم لليوم التاسع على التوالي، متحدّين حالة القمع والتجاهل المتعمد من قبل حكومة الانقلاب التي تتعامل مع حقوقهم وكأنها منّة، لا استحقاقًا. في مشهد يعكس هشاشة الدولة أمام مطالب العدالة الاجتماعية، يقف العمال وحدهم في مواجهة منظومة إدارية فاسدة، ترفض الاستجابة، وتصرّ على إذلال العامل المصري، حتى وهو يطالب بأبسط حقوقه: أجر عادل، بيئة عمل محترمة، وكرامة مهنية.

 

الوعود الزائفة: حين تصبح الأكاذيب سياسة رسمية

 

في مشهد يعكس مدى الاستخفاف بالعقول والكرامة، خرج القائم بأعمال رئيس مجلس إدارة شركة مياه القاهرة، أحمد جابر، ليعد العمال الثائرين بتنفيذ مطالبهم، على رأسها إقالة نائب رئيس مجلس الإدارة علي عماشة، لكن ككل وعود الأنظمة العسكرية، لم يكن ما قاله سوى "كلام في الهوا".

 

العمال الذين صدقوا للحظات أن الدولة ستفي بالتزاماتها، استيقظوا مجددًا على واقع مأساوي: عماشة لا يزال في منصبه، يعاقب، يخصم، يرفض صرف العلاوات، ويسخر من أحكام القضاء. فهل تنتظر الحكومة انفجارًا حقيقيًا قبل أن تتحرك؟ أم أن قمع العمال بات جزءًا من سياسات ما بعد الانقلاب؟

 

حقوق منهوبة وكرامة مهدرة

 

منذ 2017، والعلاوات التي أقرّتها الدولة غائبة عن جيوب العاملين. فروق الضرائب لم تُصرف، بدلات الغذاء والانتقال في الحضيض، والتمييز في الرواتب بين موظفي الشركات التابعة والشركة القابضة يصل إلى 4000 جنيه. هذا غير تسوية المؤهلات، وتثبيت العمالة المؤقتة، وتحسين الخدمات الطبية… كلها مطالب مشروعة، لا تزال تُقابل إما بالصمت، أو بالعقاب الإداري.

 

إنه احتقار ممنهج للطبقة العاملة، وعودة صريحة لسياسات ما قبل الثورة، حيث كانت الحقوق تُقابل بالهراوة، والمطالبات بالحرمان، والاحتجاجات بالتخوين.

 

جابر وعماشة: وجهان لنظام لا يعترف إلا بالطاعة

 

في الوقت الذي يستمر فيه عمال مواقع عديدة في الاحتجاج – من شبكات المياه ومحطات التحلية إلى المخازن وخدمة العملاء – كان المسؤولون يواصلون إدارة الشركة بمنطق "من لم يعجبه، فليذهب".

 

علي عماشة، الذي يحمّله العمال مسؤولية عرقلة جميع مطالبهم، يواصل عمله بشكل طبيعي وكأن شيئًا لم يحدث. كل اتهام بالتعسف الإداري والفساد الوظيفي يتم تجاهله، بل ومكافأته باستمراره في منصبه.

 

أما أحمد جابر، الذي وعد ثم اختفى، فقد بات نموذجًا صارخًا لـ "إدارة الخداع"، وهو النموذج ذاته الذي تتبناه حكومة الانقلاب في تعاملها مع كل قطاعات الدولة، من الصحة إلى التعليم إلى المرافق.

 

إضرابات تتسع.. والنظام في صمت متواطئ

 

اليوم، لم تعد الاحتجاجات محصورة في عدد من المحطات، بل امتدت إلى محطات جديدة مثل تحلية المرج، وانضم إليها مشرفو التحصيل الذين كانوا يُستخدمون ككسرٍ للإضراب.

 

النتيجة: انخفضت نسبة تحصيل الفواتير إلى 20% فقط، وهو ما يؤكد أن العمال يمتلكون أدوات الضغط إذا أصرّت الحكومة على إدارة الأزمات بغطرسة القوة.

 

لكن السؤال الأخطر: هل يفهم النظام الدرس؟ أم أنه سيواصل الإنكار حتى يفقد السيطرة تمامًا؟

 

حكومة بلا عدالة: نفس السيناريوهات.. نفس القهر

 

الاحتجاجات ليست وليدة اليوم. ففي يوليو بالإسكندرية، وفي مارس بالقليوبية، تكررت المشاهد ذاتها: عمال يحتجون، يطالبون، فيُقابلون بالتجاهل.

 

إنها أزمة ممتدة، لا تعود إلى قصور في الميزانية كما يروّجون، بل إلى إرادة سياسية قررت أن تصادر الحقوق لصالح طبقة بيروقراطية مرتاحة في مكاتبها، لا تعرف شيئًا عن واقع العمال، ولا تكترث لأوجاعهم.

 

أليس هذا جوهر نظام الانقلاب؟ حكم فوقي، لا يسمع ولا يرى، لكنه يقمع ويعاقب كل من يتجرأ على طلب حقه!

 

"يا رجالة ويا ستات قولوا فين العلاوات"

 

في مقاطع الفيديو التي انتشرت عبر مواقع التواصل، ظهر العمال يهتفون ضد الكذب الرسمي، ويُطالبون بإسقاط منظومة التجاهل والاستعباد.

 

"العلاوات العلاوات.. مش عايزين اشتغالات" و"قراراتك راحت فين؟"، شعارات لخصت المأساة. فعندما يُطالب العمال بما أقرّه القانون، وترد الدولة بدفعهم إلى المحاكم، فإن هذا ليس خلافًا إداريًا، بل جريمة اجتماعية.

 

في ظل تجاهل الحكومة المستمر لمطالب العمال، وتواطؤ الإدارات التنفيذية مع الفساد الإداري داخل الشركات، تصبح الاحتجاجات العمالية في قطاع المياه – كما في غيره – ناقوس خطر يُنذر بانفجار اجتماعي قادم. حكومة الانقلاب، التي تدّعي الاستقرار، تزرع كل يوم أسباب الغضب، وتُصر على دفن العدالة الاجتماعية. لكن إذا استمرت في هذا المسار، فستجد نفسها في مواجهة شعب لم يعد يملك شيئًا ليخسره.