يدعو الشيخ أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب في كتابه الإسلام وهموم الناس إلى إحياء قيم الأخوة والتكافل والعدل في المجتمع الإسلامي، مستندًا إلى أحاديث نبوية شريفة تحثّ على قضاء حوائج الناس، ونصرة المظلوم، وإغاثة المحتاج، والاهتمام بشؤون الآخرين.
ويؤكد أن رسول الله ﷺ كان قدوة عملية في تبنّي هموم الناس، سواء بالدفاع عن الضعفاء، أو بتحمل المسؤولية الاجتماعية، أو بإقامة العدل حتى في بيته وبين أصحابه. كما يُبرز أن السنة النبوية أقامت نظامًا اجتماعيًا متكاملًا يمنع الظلم ويُرسخ العدل والتراحم.
كما ينبه إلى أن غياب هذه المعاني في الواقع المعاصر أدى لتفكك الأمة، مؤكدا أن تبنّي هموم الناس يجب أن يكون عبادةً، وسبيلًا لإصلاح الأمة، وحفظها من التشتت والانهيار، وذلك عبر العدل، وإقامة حدود الله، وروح التكافل المجتمعي التي أرسى قواعدها النبي ﷺ.
إن الأحاديث، التي تحث المسلمين، على تبني هموم الناس، ومشاكلهم، وترغب في ذلك، أكثر من أن تحصى، في هذا المقام. والمتعامل معها، يلاحظ، أن في الإسلام نظاما كاملا، لإقامة العلاقات الاجتماعية، بين الناس، على وجه يبعد كل الأدواء، التي تنخر كيان المجتمعات، عن المجتمع الإسلامي. وهو نظام حري، بأن يبحث فيه، وتوضح معالمه، في دراسة جادة موضوعية، ومستقلة. وفيما يلي طرف من هذه الأحاديث الشريفة.
أسس الأخوة والتكافل المجتمعي
تؤسس السنة النبوية لمجتمع متراص ومتكافل، يقوم على الشعور بالآخرين والاهتمام بشؤونهم.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره الله يوم القيامة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر في الدنيا، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد، ما كان العبد في عون أخيه).
وعن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه). وقد ورد في رواية الكشميهني: (يشد بعضهم بعضا) بصيغة الجمع، وهو أدل على التفاعل.
فضائل قضاء الحوائج ونصرة المظلوم
لم تكتفِ النصوص بحث المسلمين على التعاضد فحسب، بل رتبت على ذلك فضائل عظيمة وجعلت نصرة المظلوم واجبًا لا يمكن التهاون فيه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لأن أمشي مع أخ في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة- شهرا).
وعن جابر وأبي طلحة رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يخذل مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من مسلم ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، فذكر عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار القسم).
القدوة النبوية في حمل هموم الأمة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة العملية في تبني هموم الناس والدفاع عنهم، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة.
وقد شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول، وسنه يومها عشرون سنة، وهو حلف مقتضاه نصر المظلوم، والتآسي في المعاش. قال ابن سعد في طبقاته: (كان الفجار في شوال، وهذا الحلف في ذي القعدة، وكان أشرف حلف، كان قط، وأول من دعا إليه، الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وتيم، في دار عبد الله بن جدعان، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله، لنكونن مع المظلوم، حتى يؤدى إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وفي التآسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول). قال: وأخبرنا محمد بن عمر قال: فحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن عبد الرحمن بن أزهر، عن جبير بن مطعم، قال: (قال رسول الله: ما أحب أن لي بحلف، حضرته بدار ابن جدعان، حمر النعم، وأني أغدر به، هاشم وزهرة وتيم، تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم، ما بل بحر صوفة، ولو دعيت به، في الإسلام، لأجبت، وهو حلف الفضول).
وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يقول: (من مات وترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا، أو ضياعا، فإلي وعلي).
وقد كان صلى الله عليه وسلم أسرع الناس مبادرة، لتقصي أسباب الخطر، ومصادره، ليدفعه عنهم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشجع الناس، وأحسن الناس، وأجود الناس، قال: فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبقهم، وهو يقول: (لن تراعوا) وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، قال: فجعل يقول للناس: (لن تراعوا) وقال: (وجدناه بحرا) (يعني الفرس).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير: أوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أنظر إلى من هو دوني.. وأوصاني بحب المساكين، والدنو منهم.. وأوصاني أن أصل رحمي، وإن أدبرت.. وأوصاني أن لا أخاف في الله لومة لائم.. وأوصاني أن أقول الحق، وإن كان مرا.. وأوصاني أن أكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنه كنز من كنوز الجنة).
الانتصار للحق وإقامة العدل لحفظ كيان الأمة
إن التبني الحقيقي لهموم الناس لا يكتمل إلا بإقامة العدل والانتصار للمظلوم وإقامة حدود الله التي تحفظ للمجتمع أمنه وتماسكه.
قال ابن حجر العسقلاني في شرح حديث (نصر المظلوم): "نصر المظلوم فرض على الكفاية، وهو عام في المظلومين، وكذلك في الناصرين، بناء على أن فرض الكفاية، مخاطب به الجميع، وهو الراجح...". وقد قيل: إن فقه الإمام البخاري في تراجمه، وقيل: ذلك بحق، ومن الدلالات عليه، أنه عقد في جامعه الصحيح، بابا مستقلا، لبيان وجوب الانتصار من الظالم، ضمن كتاب المظالم، فقال رحمه الله: (باب الانتصار من الظالم، لقوله جل ذكره: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما} (النساء:148).. {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} (الشورى:39)).
وقد أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على تثبيت هذا الخلق في أمته، شروعا بأزواجه، أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن، فكان صلى الله عليه وسلم ينصر المظلومة منهن، ويتهلل وجهه الشريف، إذا انتصرت وانتصفت لنفسها بحق، وما ذاك إلا لفرحه صلى الله عليه وسلم، بإقامة أمر الله، الذي هو وجوب الانتصار من البغي، والظلم، بين المسلمين، بدءا من بيوته الشريفة صلى الله عليه وسلم، فقد روى النسائي، وابن ماجه، بإسناد حسن، من طريق التيمي، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: (دخلت على زينب بنت جحش، فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت، فقال لي: سبيها، فسببتها، حتى جف ريقها في فمها، فرأيت وجهه يتهلل).
وقد جاء أسامة بن زيد -الحب ابن الحب- مرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، موفدا من وجهاء المسلمين، ليكلمه في شأن إحدى الشريفات، من بني مخزوم، كانت قد سرقت، وهي فاطمة المخزومية، ليسقط عنها الحد، إكراما لقومها، وتألفا لهم... فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى احمر وجهه، ثم قال: (أتشفع في حد من حدود الله! إنما أهلك من كان قبلكم، أنهم كانوا، إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحد.. وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها).
المنهج النبوي في رعاية المجتمع
إن أبسط تأمل، في واقعنا المعاصر، يوقفنا على كون هذه المعاني، قد غابت بشكل كبير، من حياة المسلمين، فمرج أمرهم، وشاع البغي والظلم بينهم، وقبل ذلك بدعوى السماحة، ودعوى الواقعية، وحقن الدماء، وصون الأعراض، والأموال، فأريق من الدماء، وهتك من الأعراض، وضيع من الأموال (بشكل أو بآخر)، أكثر بكثير، مما كان سوف يقدم في سبيل الله من ذلك، قصد تنقية المجتمع المسلم، وحفظه من الاضمحلال والتشتت.
إن التبني الحقيقي الصادق لهموم الناس، يبدأ من الحرص على إقامة حدود الله، لحماية أمن أمتهم، وتماسك بنيانها، ويبدأ قبل ذلك من الحرص على إشاعة العدل، وروح التكافل بينهم، عبادة لله، ودعوة إليه، بالبرهنة عمليا على امتلاك دينه للقدرة والصلاحية، لأن يشيع رحمة الله على الناس، في الدنيا والآخرة، في كل زمان، وفي كل مكان، وتدافعا مع أهل الباطل والبغي، لحفظ وتجديد بنيان خير أمة أخرجت للناس: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (البقرة:251).
إن جميع الأحاديث التي مرت معنا في هذا الفصل، أحاديث مباشرة، حث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، على تبني هموم بعض أعضائها، هموم بعضهم الباقي، وإلا فأحاديثه صلى الله عليه وسلم، في تحريم الغش والاحتكار، وتلقي الركبان، وبيع الحاضر للبادي، والرشوة، وكذا أحاديثه صلى الله عليه وسلم في الأمر بالقسط والعدل، والإصلاح بين الناس، وإيجاب التكافل، والأمر بالزكاة، والصدقة، وكذا سلوكه العملي صلى الله عليه وسلم، أمور كلها تصب في هذا المصب، ورب قائل يقول: بل كل سيرته، وكل أحاديثه صلى الله عليه وسلم تصب في هذا المصب، وهذا حق وصدق، غير أنه، لا يمكن حصر كل ذلك، في مثل هذا المقام، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

