في خطوة جديدة تكشف عمق الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد والنهج الحكومي القائم على بيع الأصول الاستراتيجية، أعلنت حكومة الانقلاب عن استعدادها لطرح جميع المطارات المصرية أمام القطاع الخاص، وهو ما استدعى اهتمامًا فوريًا من شركات أجنبية مثل مجموعة "كوبيلوزوس" اليونانية.
وبينما تسوق الحكومة هذه الخطوة على أنها "شراكة" و"تطوير"، يرى المراقبون أنها ليست سوى عملية تفريط جديدة في أصول سيادية ومنافذ حيوية للدولة، تأتي في سياق الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي والحصول على سيولة نقدية عاجلة لسداد ديون متراكمة نتيجة سياسات اقتصادية فاشلة. إن عرض المطارات، التي تمثل بوابات الدولة ورمزًا من رموز سيادتها، للإدارة الأجنبية لا يمكن قراءته إلا كإعلان إفلاس إداري واقتصادي لنظام أغرق البلاد في الديون.
تفريط في السيادة تحت ستار الشراكة
يأتي لقاء وزير الطيران المدني، سامح الحفني، مع رئيس المجموعة اليونانية ليؤكد مدى استعجال الحكومة في التخلص من مسؤولياتها تجاه إدارة المرافق الحيوية. فبدلًا من تطوير الإدارة الحكومية ورفع كفاءتها، اختار النظام الطريق الأسهل: البيع والتأجير.
إن تصريح رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، بأنه "لن يكون هناك مطار واحد يتم تشغيله من قبل الحكومة" هو تصريح صادم يكشف عن فلسفة حكم تتخلى عن دور الدولة بالكامل في القطاعات الاستراتيجية. المطارات ليست مجرد مشاريع تجارية هدفها الربح، بل هي بنية تحتية أمنية ولوجستية بالغة الحساسية.
فمن خلالها يتم التحكم في حركة الدخول والخروج من البلاد، وتطبيق الإجراءات الأمنية، وفرض سيادة الدولة. تسليم هذه المهمة لشركات خاصة، خاصة الأجنبية منها، التي يبقى دافعها الأول هو تعظيم الأرباح، يفتح الباب أمام مخاطر أمنية وقومية لا يمكن الاستهانة بها، ويجعل أمن الحدود المصرية خاضعًا لحسابات تجارية قد لا تتوافق بالضرورة مع المصلحة الوطنية العليا.
ابتزاز صندوق النقد وبرنامج الطروحات الفاشل
لا يمكن فصل قرار طرح المطارات عن سياق اتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 8 مليارات دولار. لقد كان تسريع برنامج الطروحات الحكومية أحد الشروط الأساسية التي فرضها الصندوق، وهو البرنامج الذي فشلت الحكومة في تحقيق مستهدفاته بشكل كبير خلال الفترة الماضية.
وبعد بيع حصص في شركات وبنوك تاريخية، وصل الأمر الآن إلى المطارات. هذا يعني أن الحكومة لا تتصرف بناءً على رؤية استراتيجية للتنمية، بل تتصرف كرد فعل لضغوط خارجية وللحاجة الماسة للعملة الصعبة. إنها سياسة "بيع الأصول لتسديد الفواتير"، وهي سياسة لا تبني اقتصادًا مستدامًا، بل تؤدي إلى تآكل الثروة الوطنية تدريجيًا.
وبدلًا من معالجة الأسباب الحقيقية للأزمة، والمتمثلة في الإنفاق غير المنتج على مشاريع دعائية ضخمة والاقتراض المفرط، تلجأ الحكومة إلى حلول مسكنة مؤقتة ستكون عواقبها وخيمة على المدى الطويل، حيث تفقد الدولة مصادر إيرادات دائمة مقابل حفنة من الدولارات التي سرعان ما ستتبخر في سداد أقساط الديون وفوائدها.
تجاهل العواقب وتبديد الأصول الوطنية
إن تسليم إدارة المطارات للقطاع الخاص الأجنبي سيترتب عليه حتمًا تبعات سلبية على المواطنين والعاملين في هذا القطاع الحيوي.
فالشركات الخاصة تهدف لزيادة أرباحها عبر رفع رسوم الخدمات على المسافرين وشركات الطيران، مما قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار تذاكر السفر وتكاليف الشحن الجوي، وهو ما سيؤثر سلبًا على قطاعات أخرى كالسياحة والتصدير. كما أن مصير آلاف العاملين والموظفين في المطارات المصرية يصبح غامضًا، حيث عادة ما تلجأ الإدارات الجديدة إلى خطط إعادة هيكلة تتضمن تسريح العمالة لخفض التكاليف.
إن الحكومة، في سعيها المحموم لإرضاء صندوق النقد والمستثمرين الأجانب، تتجاهل تمامًا الأبعاد الاجتماعية لهذه القرارات وتتنصل من مسؤوليتها تجاه مواطنيها. إن ما يحدث هو استمرار لنهج تبديد الأصول الذي بدأ ببيع الفنادق التاريخية والشركات الرائدة، وها هو اليوم يطال المطارات، ولا أحد يعلم ما هو الأصل التالي على قائمة البيع. إنها شهادة دامغة على أن النظام الحالي يدير الدولة بعقلية التاجر المفلس الذي يبيع أثاث بيته لسداد ديونه، وليس بعقلية الدولة التي تحافظ على ثروات الأجيال القادمة.

