أثار الغياب المفاجئ لمصر عن اجتماع الدول الضامنة لاتفاق غزة، الذي عُقد في إسطنبول، عاصفة من التساؤلات حول طبيعة الدور المصري الحالي في القضية الفلسطينية والنهج الذي يتبعه نظام قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي في إدارة علاقاته الإقليمية. ففي الوقت الذي كان يُنتظر فيه أن تقود القاهرة جهود متابعة تنفيذ اتفاق شرم الشيخ، جاء غيابها ليطرح شكوكًا عميقة حول جديتها، ويُظهر ما يصفه المراقبون بأنه تخبط وارتباك في السياسة الخارجية، وتغليب لحسابات شخصية ضيقة على المصالح الاستراتيجية للدولة المصرية ودورها التاريخي.

 

 

تبريرات واهية وعزلة متزايدة

 

لم تقدم الحكومة المصرية تفسيرًا رسميًا واضحًا لغيابها عن القمة التي ضمت سبع دول إقليمية أخرى كانت قد شاركت في رعاية الاتفاق. الاكتفاء بتصريح وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، بأن نظيره المصري بدر عبد العاطي لديه "ارتباطات مهمة" في بلاده، بدا تبريرًا دبلوماسيًا لا يصمد أمام التدقيق. حيث كشفت متابعات صحفية، أبرزها ما أشار إليه الإعلامي حافظ المرازي، أن أجندة وزارة الخارجية المصرية لم تكن مزدحمة بأي فعاليات استثنائية تمنع الوزير من حضور اجتماع بهذا الحجم من الأهمية. هذا الغموض المتعمد لا يعكس سوى حالة من الارتباك، أو ربما محاولة لإرسال رسائل سياسية مبطنة جاءت بنتائج عكسية، وعززت من عزلة مصر بدلاً من تأكيد ريادتها.

 

صراع النفوذ مع تركيا

 

يرى محللون أن الغياب المصري قد يكون مرتبطًا بشكل مباشر بالتوتر الكامن في العلاقات مع تركيا، وتحديدًا حول النفوذ في غزة ما بعد الحرب. تشير تقارير إعلامية إسرائيلية إلى أن مصر تعارض بشدة أي دور عسكري أو أمني لتركيا في القطاع، وتسعى لضمان أن تكون هي اللاعب الأمني الرئيسي، خاصة مع الحديث عن استبعاد تركيا من قوة حفظ السلام المقترحة بضغط إسرائيلي وتأييد مصري. وفي هذا السياق، يبدو أن نظام السيسي، بدلاً من استخدام القنوات الدبلوماسية والتفاوض الجماعي في إسطنبول لتأكيد موقفه، اختار سياسة "الكرسي الخالي"، وهي استراتيجية غالبًا ما تؤدي إلى تهميش صاحبها بدلاً من منحه الكلمة العليا.

 

أما عن ربط الغياب بعدم حضور أردوغان لافتتاح المتحف المصري الكبير، فإنه وإن لم يكن السبب المباشر، إلا أنه يندرج ضمن نمط من "الصراع الصفري" الذي يحكم علاقة السيسي بأردوغان، حيث تُدار السياسة الخارجية بمنطق الندية الشخصية وردود الفعل الانتقامية، بدلاً من الحسابات الاستراتيجية الرصينة. هذا النهج يضعف من قدرة الدولتين على التعاون في ملفات حيوية مثل الملف الفلسطيني، ويفتح الباب أمام أطراف أخرى لملء الفراغ.

 

https://www.youtube.com/watch?v=36_MSjcSvYc&t=2s

 

اكتفاء السيسي بـ "لقطة شرم الشيخ"

 

يطرح الغياب المصري تساؤلاً جوهريًا حول رؤية نظام السيسي لدوره؛ فهل كان الهدف هو مجرد تحقيق "نصر" دبلوماسي شخصي للسيسي باستضافة قمة شرم الشيخ بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومن ثم التراجع عن أي التزامات لاحقة؟. يبدو أن النظام يتعامل مع السياسة الخارجية بمنطق "الفعاليات الكبرى" والتقاط الصور، دون اهتمام حقيقي بالعمل الدؤوب والمتابعة المستمرة التي تتطلبها الدبلوماسية الفعالة. لقد كانت قمة شرم الشيخ فرصة لتحقيق مكاسب دعائية للنظام، لكن الامتناع عن حضور اجتماع المتابعة في إسطنبول يكشف أن الاهتمام كان منصبًا على تنظيم الحدث وليس على نتائجه المستدامة.

 

هذا السلوك يكرس صورة نظام يهتم بالشكليات على حساب الجوهر، ويفضل الاحتفالات والمراسم على الانخراط في مفاوضات معقدة تتطلب نفسًا طويلاً وتنسيقًا مستمرًا. إن الاكتفاء بما تم في شرم الشيخ واعتباره نهاية المطاف هو قراءة خاطئة لمسار الصراع، وتخلٍ عن مسؤولية مصر كدولة ضامنة للاتفاق.

 

تآكل الدور المصري

 

في المحصلة، فإن غياب مصر عن قمة إسطنبول لم يكن خطوة محسوبة تعزز من موقفها، بل كان قرارًا يكشف عن ضعف الرؤية الاستراتيجية لنظام السيسي وعن سياسة خارجية متقلبة وفردية. بدلاً من تأكيد دورها كقائد إقليمي لا غنى عنه، وضعت مصر نفسها في موقف المتفرج، بينما تناقش الأطراف الأخرى مستقبل أمنها القومي على حدودها الشرقية. إن هذا التراجع المتعمد، سواء كان رد فعل على تركيا أو اكتفاءً بما تحقق في شرم الشيخ، يمثل حلقة جديدة في مسلسل تآكل الدور المصري التاريخي في القضية الفلسطينية، ويُظهر نظامًا يفضل العزلة على القيادة، والانفعال على الحكمة، مما يترك الباب مفتوحًا لمزيد من تهميش القاهرة في قضايا المنطقة المصيرية.