في خطوة تثير جدلاً واسعاً، أعلنت الحكومة المصرية عن إبرام اتفاقية مع شركة "الديار" القطرية لتطوير منطقة علم الروم بالساحل الشمالي، باستثمارات تُقدر بنحو 29.7 مليار دولار. وعلى الرغم من أن الحكومة تروج للمشروع باعتباره إنجازاً استثمارياً ضخماً سيضخ عملة صعبة في شرايين الاقتصاد المأزوم، يرى منتقدون أن هذه الصفقة ليست سوى حلقة جديدة في مسلسل التفريط في أصول الدولة الاستراتيجية، وبيع للمستقبل مقابل حلول نقدية قصيرة الأجل لا تعالج جذور الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها المواطن المصري. يأتي هذا الاتفاق في توقيت شديد الحساسية، حيث يواجه الاقتصاد تحديات غير مسبوقة، من تهاوي قيمة الجنيه إلى تفاقم الدين الخارجي الذي تجاوز 165 مليار دولار.

 

نمط متكرر: من رأس الحكمة إلى علم الروم

 

لا يمكن النظر إلى صفقة علم الروم بمعزل عن صفقة رأس الحكمة التي سبقتها بأشهر قليلة. يرى محللون أن الحكومة تتبع نمطاً ممنهجاً يقوم على بيع الأراضي الساحلية المميزة، التي تمثل أصولاً سيادية نادرة، كحل سريع ومُسكّن مؤقت لأزمة السيولة الدولارية. هذا النهج، بدلاً من أن يتجه نحو بناء اقتصاد إنتاجي حقيقي يعتمد على الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، يرتكز على تسييل الأصول الأكثر قيمة. إن تخصيص مساحة 4900 فدان، جزء كبير منها منزوع من حيازة القوات المسلحة، لصالح شركة أجنبية يطرح تساؤلات جدية حول أولويات الدولة، وما إذا كانت التنمية المستدامة الحقيقية هي الهدف، أم مجرد توفير تدفقات نقدية عاجلة بأي ثمن.

 

شراكة أم بيع؟ تفكيك أرقام الصفقة

 

تروج الحكومة للاتفاق على أنه "شراكة استثمارية" ستحصل مصر بموجبها على 15% من الأرباح السنوية للمشروع. ولكن عند تفكيك الأرقام، تظهر صورة مختلفة. فمقابل التنازل عن 4900 فدان من أفضل شواطئ البحر المتوسط، ستحصل الخزانة المصرية على 3.5 مليار دولار فقط كدفعة نقدية. أما المبلغ المتبقي، وهو 26.2 مليار دولار، فهو ليس أموالاً تدخل مصر، بل "استثمار عيني" ستقوم به الشركة القطرية لتطوير مشروعها الخاص على الأرض المصرية. أما نسبة الـ15% من الأرباح، فهي نسبة ضئيلة ومؤجلة، لن تبدأ مصر في تحصيلها إلا بعد أن تسترد الشركة المطورة كامل تكاليفها، وهو أمر قد يستغرق سنوات طويلة، مما يجعل العائد الحقيقي للدولة المصرية من هذا الأصل الاستراتيجي محل شك كبير.

 

تنمية للأثرياء أم حلول لأزمة المواطن؟

 

بينما تحتفي الحكومة بهذا المشروع الضخم، الذي يهدف إلى إنشاء مدينة سياحية متكاملة تعمل على مدار العام، تتكشف تفاصيله لتخدم فئة محددة. فالمخطط العام يركز على بناء أحياء سكنية فاخرة، وملاعب جولف، ومراسٍ لليخوت، ومنتجعات عالمية، وهي كلها مكونات تستهدف الأثرياء المحليين والأجانب. في المقابل، يرزح المواطن المصري العادي تحت وطأة غلاء فاحش، ونقص في السلع الأساسية، وتدهور في الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم. يرى النقاد أن مثل هذه المشاريع الفاخرة تعمق الفجوة الاجتماعية وتكرس "اقتصاد الفقاعة" القائم على العقارات الفاخرة، بدلاً من توجيه الاستثمارات نحو قطاعات تخلق فرص عمل حقيقية وتلبي احتياجات الأغلبية. فبدلاً من بناء المصانع أو استصلاح الأراضي الزراعية، تواصل الحكومة بيع أجمل سواحلها لتحويلها إلى منتجعات مغلقة، لا يرى منها المواطن سوى صورها وأخبارها.

 

في الختام، يمثل مشروع علم الروم، في نظر منتقديه، استمراراً لسياسة اقتصادية قصيرة النظر، تدير الأزمة ولا تحلها. فالحكومة تراهن على بيع أصول الأجيال القادمة لتجاوز أزمة ديون صنعتها سياساتها التوسعية في الإنفاق على مشاريع ضخمة لم يظهر عائدها الاقتصادي بعد. وبذلك، يبقى السؤال مطروحاً: هل هذه الاستثمارات هي قاطرة للتنمية كما تدعي الحكومة، أم أنها مجرد مسامير إضافية في نعش الاقتصاد الإنتاجي وتفريط في مقدرات وطن بأكمله؟.