في وقتٍ ما زال فيه الرأي العام المصري والعربي يرفض كل أشكال التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، أثارت مقابلة عالم الآثار ووزير السياحة والآثار الأسبق، زاهي حواس، مع قناة "كان" الإسرائيلية التابعة لهيئة البث الرسمي، موجة غضب واسعة، وطرحت تساؤلات عن حدود الخطوط الحمراء في التعامل مع مؤسسات إسرائيلية.
ظهور حواس لم يأتِ في سياق علمي بحت كما حاول تبريره، بل جاء متزامناً مع افتتاح المتحف المصري الكبير، في مشهد اعتبره كثيرون محاولة لتلميع صورة شخصية مثيرة للجدل وسط اتهامات متكررة له بتقديم نفسه كـ"حارس الحضارة" بينما يغضّ الطرف عن القضايا الأخلاقية والسياسية المرتبطة بالتطبيع الثقافي.
مقابلة على شاشة إسرائيلية تشعل الجدل
أجرى حواس مقابلة مع قناة "كان" الإسرائيلية تحدث فيها عن افتتاح المتحف المصري الكبير، واصفاً الحدث بأنه "أهم حدث في العالم كله"، مضيفاً أن المتحف ليس مجرد مبنى أثري، بل "مؤسسة ثقافية تعليمية وسياحية على أعلى مستوى"، حسب تعبيره.
لكن الجدل لم يكن بسبب حديثه عن المتحف، بل بسبب الجهة التي منحها المقابلة. وعندما سأله المراسل الإسرائيلي عن إمكانية زيارة الإسرائيليين للمتحف، تهرب حواس قائلاً: "هذا سؤال لا يوجه لي، المتحف مفتوح لكل الناس في كل مكان في الدنيا".
ردّه بدا دبلوماسياً ظاهرياً، لكنه فُهم من قبل منتقديه كإقرار ضمني بعدم وجود مانع من استقبال الزوار الإسرائيليين، في وقت ما تزال فيه جراح التطبيع مفتوحة، خاصة مع استمرار الجرائم الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية.
الكاتب والباحث في علم الاجتماع الثقافي الدكتور حمدي عبد العظيم علّق قائلاً إن "مشكلة زاهي حواس ليست فقط في ظهوره على قناة إسرائيلية، بل في الإصرار على التعامل مع الكيان وكأنه دولة طبيعية، متناسياً أن كل منابرها الإعلامية هي أدوات دعاية سياسية قبل أن تكون منصات إعلامية".
בהשקעה של מיליארדים: נשיא מצרים א-סיסי השיק את "מוזיאון התרבות המצרית העתיקה" - בפסטיבל להאדרת שמו
— כאן חדשות (@kann_news) November 1, 2025
הכתבה של @kaisos1987 מתוך #מהדורתכאןחדשות עם @AyalaHasson pic.twitter.com/nx5jmpPymw
حواس بين العلم والسياسة.. خط فاصل يتآكل
زاهي حواس لطالما قدّم نفسه على أنه المدافع الأول عن الحضارة المصرية، لكن سلسلة من التصريحات والمواقف جعلت كثيرين يرونه جزءاً من مشروع تلميع رسمي أكثر من كونه باحثاً مستقلاً.
فمن الظهور في البودكاست الأمريكي الشهير "ذا جو روغان إكسبيريانس" إلى الظهور على شاشة إسرائيلية، يبدو أن حواس يسعى لتوسيع حضوره الإعلامي عالمياً ولو على حساب ثوابت قومية.
وفي المقابل، يرى بعض أنصاره أن "الظهور على أي قناة لا يعني بالضرورة اعترافاً أو تطبيعاً، بل مجرد فرصة لترويج السياحة المصرية"، غير أن هذا التبرير لا يقنع النقاد، الذين يعتبرون أن الترويج السياحي لا يبرر الظهور على منبر يمثل الاحتلال.
الناقد الثقافي الدكتور حسين عبد الرازق قال إن "العلم والثقافة لا يمكن فصلهما عن الأخلاق والسياسة، وكل من يختار الظهور في الإعلام الإسرائيلي يدرك تماماً أن حضوره يُستغل لتبييض وجه كيان محتلّ"، مؤكداً أن حواس "يكرر الخطأ ذاته في كل مرة، ظناً منه أن التاريخ سينصفه كعالم، متجاهلاً أن الشعوب لا تنسى من يتجاوز حدودها الوطنية".
من أزمة “جو روغان” إلى بوابة التطبيع
ليست هذه المرة الأولى التي يثير فيها حواس الجدل إعلامياً. ففي مايو الماضي، ظهر في حلقة من بودكاست “ذا جو روغان إكسبيريانس”، ووصف المذيع الأمريكي الشهير الحلقة بأنها “الأسوأ في تاريخ برنامجه”.
الحلقة أثارت ردود فعل متباينة، إذ رأى البعض أن حواس قدّم نفسه كمحامٍ عن الحضارة المصرية، بينما رأى آخرون أن أسلوبه كان متعالياً، وأنه لم يحسن إدارة الحوار.
وفي رده لاحقاً على الانتقادات، قال حواس إن روغان أراد منه أن يقرّ بنظريات غير علمية حول بناء الأهرامات، لكنه رفض ذلك “دفاعاً عن الحقيقة العلمية”.
ورغم هذا الدفاع، رأى مراقبون أن طريقة حواس المتشنجة في الحلقات الإعلامية تعكس رغبة دائمة في لفت الأنظار، حتى لو كان الثمن تجاوز القيم الوطنية.
المتحف الكبير.. إنجاز علمي أم منصة دعائية؟
يستند حواس في دفاعه عن نفسه إلى ارتباطه التاريخي بمشروع المتحف المصري الكبير، الذي بدأ التخطيط له عام 2002 خلال عهد الرئيس الراحل حسني مبارك. المشروع تعطل لسنوات، ثم أُعيد إحياؤه في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وافتُتح رسمياً في نوفمبر 2024 كأكبر متحف مخصص لحضارة واحدة في التاريخ الإنساني.
لكن هذا الافتتاح الذي يُفترض أن يكون لحظة فخر وطني، تحوّل إلى جدل سياسي بعد مقابلة حواس الأخيرة. إذ اعتبر مراقبون أن زجّ اسم المتحف في مقابلة مع وسيلة إعلام إسرائيلية يفرغ الحدث من رمزيته الوطنية ويحوّله إلى أداة لتلميع صورة التطبيع الثقافي.
الخبير الأثري الدكتور محمد الطيب وصف ذلك بقوله: "التاريخ لا يُكتب فقط بالإنجازات، بل بالمواقف أيضاً. وحين يختار عالم مصري بحجم زاهي حواس الظهور على قناة إسرائيلية، فهو يرسل رسالة خاطئة لكل الأجيال الجديدة التي تربت على رفض التطبيع".
بين الفخر والخذلان
تظل مساهمات زاهي حواس في مجال علم المصريات محل تقدير علمي لا يمكن إنكاره، لكنه في المقابل يواجه اليوم انتقادات حادة بسبب خلطه بين الدور العلمي والدعاية الشخصية.
فمن جو روغان إلى "كان" الإسرائيلية، يبدو أن حواس لم يدرك بعد أن الإعلام ليس ساحة علمية محايدة، وأن التطبيع الثقافي أخطر من السياسي لأنه يضرب في وجدان الأمة.
إن المتحف المصري الكبير الذي يفترض أن يكون رمزاً للحضارة المصرية القديمة، لا يجب أن يُربط بأسماء تستسهل عبور الخطوط الوطنية باسم “العلم”، لأن العلم بلا موقف، يتحول إلى ترفٍ يخدم من يسرق التاريخ لا من يحميه.

