أثار قرار مجلس النواب بالموافقة على اتفاق قرض جديد بين الحكومة المصرية والاتحاد الأوروبي بقيمة 4 مليارات يورو موجة واسعة من الجدل، وسط اتهامات متزايدة للحكومة بالاعتماد المفرط على القروض الخارجية كخيار دائم لتسيير شؤون الدولة وسد العجز المالي.
وبينما تؤكد الحكومة أن القرض الأوروبي يأتي لدعم الإصلاح الاقتصادي والحفاظ على الاستقرار المالي، يرى خبراء اقتصاديون أن هذه القروض لم تعد أدوات تنمية بقدر ما أصبحت وسيلة لتأجيل الأزمات وتغطية الفشل في إدارة الموارد.
الاعتماد على الديون بدلًا من بناء الاقتصاد المنتج
يقول الدكتور مصطفى شاهين، أستاذ الاقتصاد بجامعة أوكلاند بالولايات المتحدة، إن مصر باتت تعتمد على القروض كآلية دائمة لتسيير الموازنة العامة لا كوسيلة لتمويل التنمية. ويوضح: "القرض الأوروبي الجديد لن يغيّر شيئًا من الواقع، لأن جذور الأزمة تكمن في غياب الإنتاج الحقيقي. نحن نقترض من أجل سداد قروض سابقة، لا لبناء قاعدة صناعية أو زراعية."
ويضيف شاهين أن استمرار هذا النهج يعني أن الاقتصاد المصري يتحرك في "دائرة مفرغة من الديون"، معتبرًا أن الحكومة تفضل الحلول السريعة التي تُرضي المؤسسات الدولية على حساب إصلاحات هيكلية حقيقية تضمن النمو المستدام.
غياب الشفافية وتحميل الأجيال القادمة عبء الديون
يرى الدكتور رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، أن الحكومة تتعامل مع ملف الديون "بدرجة خطيرة من الغموض"، موضحًا أن البرلمان يمرر الاتفاقيات المالية دون مناقشات حقيقية أو شفافية في شروط القروض. ويقول عبده: "كل قرض جديد يعني أجيالًا مستقبلية ستدفع ثمنه من عرقها وضرائبها، بينما لا يشعر المواطن بأي تحسن في مستوى معيشته."
ويؤكد أن حجم خدمة الدين الخارجي أصبح يستنزف أكثر من نصف إيرادات الدولة، وأن استمرار هذا المسار سيؤدي إلى تآكل قدرة الحكومة على الإنفاق على التعليم والصحة والبنية الأساسية.
المؤسسة العسكرية والسيطرة على الاقتصاد
من جانبه، يرى الدكتور عمرو عدلي، أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن الأزمة ليست في القروض بحد ذاتها بل في طبيعة إدارة الاقتصاد. ويقول: "حين تسيطر مؤسسات غير مدنية على مفاصل الاقتصاد، يصبح الهدف من القروض استمرار السيطرة والإنفاق، لا تحقيق التنمية."
ويضيف عدلي أن أغلب القروض تُوجَّه إلى مشروعات ضخمة تابعة لجهات سيادية، دون دراسات جدوى حقيقية أو مردود اقتصادي فعلي، مؤكدًا أن هذه المشروعات قد توفر مظاهر عمرانية، لكنها لا تُنتج قيمة مضافة ولا فرص عمل حقيقية. ويختم بالقول إن الاقتصاد المصري بات "اقتصادًا موجَّهًا لخدمة السلطة لا المواطن".
استقرار زائف وتأجيل للأزمة
ويحذر الدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق، من أن القروض الأوروبية والدولية لا تحقق استقرارًا حقيقيًا، بل تؤجل الأزمة فقط. ويقول: "الحكومة تتحدث عن الاستقرار المالي، لكن هذا الاستقرار هش، لأنه قائم على تدفقات خارجية لا على موارد ذاتية."
ويضيف أن القروض طويلة الأجل بشروط ميسرة قد تبدو مغرية، لكنها في الواقع "تخدير اقتصادي"، إذ تُبقي الدولة في حالة اعتماد دائم على الخارج، دون تحفيز حقيقي للإنتاج المحلي أو خلق وظائف. ويرى أن الإصلاح الاقتصادي الحقيقي يبدأ بتقليص دور الدولة في النشاط التجاري، وتمكين القطاع الخاص، ووقف التوسع في الاقتراض لأغراض غير إنتاجية.
اقتصاد رهين الديون
ويقول الدكتور محمود وهبة، الخبير الاقتصادي المقيم في نيويورك، إن مصر تعيش الآن ما وصفه بـ"مرحلة التبعية المالية"، موضحًا أن: "القروض لم تعد تُستخدم كوسيلة للنهوض، بل أصبحت نمط حياة اقتصادي. كل قرض جديد يعني التزامًا سياسيًا واقتصاديًا جديدًا يقيد إرادة الدولة."
ويشير وهبة إلى أن الخطاب الرسمي الذي يربط الاستقرار بالاقتراض هو خطاب خطير، لأن الدول لا تبني اقتصادها بالدين، بل بالثقة والإنتاج، مضيفًا أن استمرار هذا النمط سيقود البلاد إلى “مرحلة فقدان السيطرة على القرار الاقتصادي”.
خاتمة: بين الوعود والواقع
ما بين خطاب رسمي يَعِد بالإصلاح والنهوض، وواقع اقتصادي يُثقل كاهل المواطنين بأعباء المعيشة وارتفاع الأسعار، تبدو مصر اليوم أسيرة لدوامة ديون لا تنتهي. القرض الأوروبي الأخير، وإن بدا من الخارج دعماً للاقتصاد، إلا أنه في جوهره يعكس اعتماد الحكومة على الاقتراض كخيار دائم بدلاً من الإصلاح والإنتاج.
وفي ظل غياب الشفافية وتراجع دور القطاع الخاص وتضخم الإنفاق الحكومي على مشروعات غير منتجة، يظل السؤال مطروحاً بإلحاح: هل يمكن لمصر أن تنجو من فخ الديون؟ أم أن “حكومة العسكر” جعلت الدين أسلوب حياة لا مفر منه؟

