بينما يعاني ملايين المصريين من تدهور الخدمات الأساسية في التعليم والصحة، أعلنت وزارة التنمية المحلية أن تكلفة تطوير المنطقة المحيطة بالمتحف المصري الكبير بلغت 519 مليون جنيه، شملت تطوير طرق وإنارة حديثة وإنشاء بالوعات صرف ورفع مخلفات. هذا الرقم الضخم — الذي يتجاوز نصف مليار جنيه — أثار جدلاً واسعاً حول أولويات الإنفاق الحكومي، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، وارتفاع معدلات الدين والعجز في الموازنة، وتراجع الخدمات العامة في معظم المحافظات.
فهل كان ضرورياً إنفاق هذا المبلغ الطائل على “تحسين الواجهة” في منطقة سياحية تمتلك أصلاً بنية تحتية جاهزة؟ أم أن المشهد برمّته يعكس استمرار سياسات تزيين الصورة بدلاً من معالجة الواقع؟
 
نصف مليار جنيه لتطوير محيط المتحف.. أرقام تثير الغضب
بحسب البيان الرسمي لوزارة التنمية المحلية، شمل المشروع تطوير الطرق المؤدية للمتحف، وتركيب أعمدة إنارة حديثة، وإنشاء شبكات صرف جديدة، ورفع المخلفات المتراكمة.
لكن مراقبين تساءلوا: هل كانت تلك المنطقة بحاجة فعلاً إلى كل هذا الإنفاق؟ فالمتحف المصري الكبير يقع بجوار الأهرامات، وهي منطقة تمتلك بنية تحتية مطوّرة أصلاً منذ سنوات، جرى تحديثها أكثر من مرة بمشروعات سابقة تحت إشراف هيئة المجتمعات العمرانية ووزارة السياحة والآثار.
الخبير الاقتصادي الدكتور ممدوح الولي علّق قائلاً إن “أرقام الإنفاق على المشروعات الخدمية أو السياحية أصبحت تفتقد للمنطق في ظل الوضع المالي الحرج للدولة، وإنفاق 519 مليون جنيه على تطوير محيط المتحف يمثل نموذجاً صارخاً لغياب أولويات العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد العامة”.
 
مدارس ومستشفيات.. أولويات غائبة عن جدول الحكومة
في بلد تجاوز فيه عدد الطلاب في بعض الفصول 70 تلميذاً، وتعاني فيه المستشفيات الحكومية من نقص الأطباء والمعدات، يبدو تخصيص أكثر من نصف مليار جنيه لتجميل الطرق والإنارة رفاهية غير مبررة.
فبالمبلغ ذاته كان يمكن بناء ما لا يقل عن 50 مدرسة جديدة في القرى والمناطق العشوائية، أو 10 مستشفيات مركزية تخدم آلاف المرضى يومياً، أو حتى إنشاء محطات صرف صحي في القرى التي ما تزال تغرق في مياه الصرف المكشوفة.
يقول الباحث في الاقتصاد الاجتماعي الدكتور أحمد السيد: “كل جنيه يُصرف على تجميل الواجهات في ظل أزمة اقتصادية خانقة هو خصم مباشر من حق المواطن في التعليم والعلاج. من المؤلم أن الدولة تصرف 519 مليون جنيه على الرصيف والإنارة بينما تكتظ المستشفيات الحكومية بالمرضى بلا أسرّة”.
 
البنية التحتية موجودة.. فلماذا كل هذا التبديد؟
تاريخ المنطقة المحيطة بالمتحف المصري الكبير يُظهر أن أغلب شبكات الطرق والمرافق فيها تم تنفيذها قبل أقل من عشر سنوات، عندما بدأ العمل الجاد في مشروع المتحف خلال الفترة ما بين 2017 و2023.
بل إن الحكومة نفسها أعلنت وقتها عن “تطوير شامل لشبكات الطرق المؤدية للأهرامات” ضمن مشروع “التطوير السياحي المتكامل لمنطقة الجيزة”، بكلفة تجاوزت 400 مليون جنيه.
فما الداعي لتخصيص نصف مليار جديد بعد عام واحد فقط من افتتاح المتحف؟
الخبير الهندسي المهندس خالد عبد المنعم يرى أن “ما يجري هو إعادة تنفيذ لنفس الأعمال تحت عناوين جديدة مثل الإنارة الذكية أو شبكات الصرف الحديثة، بينما الجوهر واحد — هو تجميل المشهد الخارجي أمام الكاميرات وليس تحسين حياة المواطنين”.
 
بين الإنفاق الاستعراضي والاحتياج الحقيقي
سياسات الحكومة في السنوات الأخيرة اتجهت إلى التركيز على المشروعات الضخمة ذات الطابع الدعائي، من العاصمة الإدارية إلى المتاحف الكبرى، في حين تتراجع جودة الخدمات اليومية للمواطن.
ويخشى مراقبون أن يتحول المتحف المصري الكبير — الذي يُعدّ إنجازاً معمارياً وثقافياً لا شك فيه — إلى مثال جديد على سوء إدارة الموارد، حيث تُغدق المليارات على الواجهة السياحية بينما تُهمَل المدارس الحكومية المتهالكة في القرى.
الخبير الاقتصادي الدكتور حسام عيسى علّق قائلاً: “الإنفاق العام فقد توازنه الأخلاقي. ليست المشكلة في تطوير المتحف، بل في توقيت وحجم الإنفاق. نحن في بلد يرفع أسعار الوقود ويقلص الدعم، ثم يُنفق نصف مليار جنيه على رصف طريق مطوّر أساساً”.
 
هل أصبح التجميل بديلاً عن التنمية؟
في ظل أزمات خانقة في الكهرباء والمياه وغلاء الأسعار، يتساءل المواطن البسيط: ماذا يستفيد من إنارة فاخرة حول المتحف؟ وهل هذه المشاريع تمسّ حياته اليومية؟
الحكومة تتحدث عن جذب السياحة وتوفير فرص العمل، لكن الحقيقة أن أغلب هذه المشروعات تظلّ محصورة في نطاق ضيق، ولا تخلق أثراً مستداماً على الاقتصاد الكلي أو معيشة الناس.
ويختم الكاتب الصحفي سامي القاضي بالقول: “لا أحد يعترض على الجمال والتنظيم، لكن عندما يصبح الجمال ستاراً يخفي هدر المال العام، يتحول الإنجاز إلى عبء. نصف مليار جنيه يمكن أن تغيّر وجه الريف المصري، لكنها ضاعت لتزيين شارع حول المتحف”.
وفي النهاية فإن تطوير المنطقة المحيطة بالمتحف المصري الكبير بهذا الرقم الفلكي ليس إنجازاً يُحتفى به بقدر ما هو مرآة لسياسات إنفاق مضلِّلة. فالدولة التي تصرف مئات الملايين على الأرصفة والإنارة بينما يبيت أطفالها في فصول مكتظة ومستشفياتها بلا أجهزة، لا يمكن أن تدّعي التنمية الحقيقية.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في مفهوم “الأولوية الوطنية”، لأن الوطن لا يُبنى بالحجر والضوء، بل بالإنسان والتعليم والصحة.

