د. عطية عدلان
أكاديمي مصري- أستاذ الفقه الإسلامي
وحدَها غزّةُ التي تقف ثابتةً لا تلين، وحدَها -من بين أمم الأرض عربيِّها وعجميِّها- التي تقف في وجه التآمر الدولي والكيد الأمميّ والمكر العالميّ، رابطةَ الجأش مرفوعةَ الرأس، وحدَها التي -برغم الجراح- لم تركع ولم تَنْحَنِ؛ لماذا؟
هذا هو السؤال الذي صار اليوم يعزف على أوتار القلوب في العالم أجمع مقطوعة موسيقية لأنشودة بعنوان: أريدُ حياةً لها معنى؟
في البداية كان الزخم الشعبي معبرًا عن التعاطف مع المظلوم صاحب الحقّ، ثم لم يلبث أن تحول إلى شيء آخر مختلف، فلقد وقعت عينُ الإنسانية الحائرة على أيقونة جديدة جدّة كاملة، أيقونةٍ لثورة عالمية ضدّ القبضة الحديدية التي تفرضها الصهيونية الخبيثة، ثورةٍ على استبداد كبير اتسع جوفه ليبتلع الديمقراطيات الكبرى ويضمّ عليها جوانحه، وعلى رأسمالية نيوليبرالية نجحت في تحويل الدولة المدنية المعاصرة -التي هي في أصلها غول متغول على المجتمعات- إلى أداة طيّعة في يدها، وعلى حضارة دَنَا ليلها وشارفتْ شمسُها على الغروب وما زالت تتعلق بأهداب نهار ملأَتْهُ كذبًا وتزويرًا وخداعًا ورياءً، فما أشمخَ غزةَ حتى وهي مهدّمة خاوية على عروشها!
غزة والصنمية المعاصرة
لو لم تصمد غزة في وجه البطش الصهيونيّ لما تحطم الوثن، ولو لم يكن منها هذا التحدي الأسطوريّ لما انهار الصنم، ولولا المقاومة لما جاء الحقّ ولا زهق الباطل. الآن ننظر إلى غزة وهي ركام فنرى مأساة إنسانية تعكس صورة بشعة لحضارة ادّعت على مدى قرون أنّها إنسانية وراقية، فإذا بنا نكتشف فجأة أنّها منذ مولدها وهي غارقة في الوثنية إلى النخاع، تتحنّث في محراب صنم مصوغ من الادعاء والكذب يُدْعَى الصهيونية، صنم صاغته يد السامريّة المعاصرة مثلما صاغت يد السامريّ من قبل العجل الذهبيّ الذي فتن بني إسرائيل، وإذا كان خلاص بني إسرائيل الأول قد تحقق بابتلاع اليمّ لفرعون، فإنّ خلاصهم الثاني كان بإلقاءِ موسى لعجلِ بني إسرائيل في اليم ونسفِهِ نسفًا، بهذه الطريقة تحدثت الكاتبة اليهودية نعومي كلاين.
الإقدام والإحجام وتقاطع الأحلام
بين الإقدام والإحجام تتقاطع الأحلام، أمّا أحلام نتنياهو فقد تجسدت في قفزة توسعية حمقاء تعتمد على نبوءات توراتية خرقاء، يتجاوز بها معضلة السقوط الذي ينتظره وحزبه، ويستشرف من خلالها مكانة لا تقل عن مكانة بن غوريون وغولدمائير وربما ثيودور هرتزل، بالتمهيد لإسرائيل الكبرى التي تعتمد خطة للنفوذ من ممر داود إلى الفرات ومن معبر رفح إلى النيل، وأمّا ترامب فأحلامه عجيبة في تركيبها وتناقض مكوناتها، فهو يحلم بأن يسجل له التاريخ أنّه وحده الذي نجح من خلال صفقة القرن في تهجير شعب غزة طوعًا أو كرهًا وفي التمكين للمشروع الصهيوني الكبير طوعًا أو كرهًا، ويسجل له في الصفحة ذاتها المضمخة بالدموع والملطخة بالدماء أنّه منفردًا أحلّ بالمنطقة سلامًا أبديًّا، وإلى جانب هاتين الغايتين المتناقضتين حلمٌ شخصيٌّ كأنّه “البخشيش” الذي يتقاضاه العميل لقاء إنجاز الصفقة، يتمثل في عملية “مقاولة” لإعمار ساحل غزّة وإقامة المستوطنات (السوبر لوكس)، لكنْ يبدو أنّ غزة قد نجحت في تحويل الأحلام إلى أوهام، وفي إحراق الخطط المتقاطعة فوق أكوام الحطام.
بين ثوابت العزيمة ومتغيّرات الضرورة
شيءٌ واحد لا أحسب غزّة تفرط فيه أو تتهاون معه، وهو حقّ المقاومة في أن تحتفظ بسلاحها، وبتموضعها العسكريّ؛ هذا الحقّ تكفله جميع القوانين الدولية وغير الدولية، فمن حقّ كلّ أمة أن تتسلح وأن تدافع عن نفسها، وغزة وفلسطين أمّة منفصلة عن الكيان الصهيونيّ، وليست من رعاياه التي تستوجب تبعيّتها له عدم استقلالها بالتسلح واستعمال القوة، ومن قبل ذلك تكفله الشريعة الإسلامية، بل وتفرضه فرضًا، وتنقله من حقّ إلى واجب، وتحرّم الانحراف عنه، ومن المؤكد أنّ تسليم السلاح يساوي التولي يوم الزحف، وهذا بلا شكّ من الكبائر العظام، والموبقات الجسام، ولا أحسب المقاومة الأبيّة التقيّة تقع في هذا المنزلق الخطير، أمّا ما سوى ذلك فقل فيه ما شئت مما ينتسب للمحاورات والمداورات، وليس له من معيار ثابت إلا معيار الموازنة الدقيقة الصحيحة بين المصالح والمفاسد.
وبعد الإفلاس يأتي الانعكاس
في كتابه “الخوف من الأفول” يقول كارلو سترينجر: “توصلت إدارة مكتب بوش إلى نتيجة مفادها أنّ الأفكار الجيدة تقاس بمدى جودة تسويقها، لا شأن إطلاقًا للفحوى والمصداقية، إلى حدّ أنّه: إن لم تكن ثمة علاقة بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة، أو لم يكن ثمة دليل على وجود أسلحة دمار شامل؛ فإنّ القضية بكل بساطة مختلقة… هكذا وصل عصر العجل الذهبيّ إلى ذروته، وباتت منظومات الفكر والمعتقدات مجرد سلع تتحدد قيمتها وفقًا للعرض والطلب، مثل أيّ شيء آخر”، لهذا نقول إنّ الإفلاس هو واقع الحضارة المعاصرة، وإن بدا الأمر على خلاف ذلك.
وهذا يعني أنّ البون من البداية شاسع بين الواقع وبين ما يزعمه قادة الغرب، فما أبعد الشقة بين الدَّعْوَى التي يدعيها السرّاق وبين حقيقة إجرامهم، هذه الدعوى العريضة يلخصها توماس سي باترسون في كتابه “الحضارة الغربية الفكرة والتاريخ” قائلا: “واعتقد كثير من الرسميين في حكومة الولايات المتحدة أنّ رسالتهم ليست قاصرة على الحفاظ على الحضارة، بل وأيضًا العمل على نشرها إلى أبعد أركان المعمورة، واستلزم هذا أن يتوفر لدى جميع الأمريكيين تقييم وتقدير عميقان للرأي القائل: إنّ مجتمعهم ليس فقط مجتمعًا استثنائيًّا فريدًا، بل إنّ أبناء هذا المجتمع أيضًا هم شعب مختار، اختاره الربّ لمهمة إنجاز رسالته سبحانه وتعالى لنشر الحضارة”، وها هي الوقائع تكشف لشعوبهم أنها حضارة مفلسة حقًّا.
واليوم تقف غزّة صامدة لتحطم الصنم وتسقط الوثن وتكشف الأكذوبة الكبرى، فلعلّ الله ثبّتها لتكون طليعة الفتح الكبير، الفتح الذي سيقلب الدنيا كلها رأسًا على عقب، ذلك الذي أشار إليه الكتاب العزيز: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيرًا}، {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا}، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}.


 
						
											 
 
					     
 
					     
									 
									 
									