في الوقت الذي تتباهى فيه الحكومة بموقع البلاد الجغرافي المميز وقدرتها على أن تكون مركزاً محورياً للتجارة العالمية، جاءت تصريحات وزير الخارجية بدر عبد العاطي لتكشف واقعاً مغايراً تماماً؛ واقعاً عنوانه تراجع الدور المصري الإقليمي، وتراكم الخسائر الاقتصادية، وعجز الإدارة عن تحويل الأزمات إلى فرص.
ففي تصريحات أدلى بها الوزير خلال زيارته إلى نيودلهي، أقر بأن حل القضية الفلسطينية هو شرط أساسي لتحقيق تقدم في مشروع "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا" الذي تدعمه الولايات المتحدة. هذه التصريحات، رغم ما تبدو عليه من دبلوماسية، تعكس هشاشة الموقف المصري من مشروع استراتيجي كان يفترض أن تكون القاهرة أحد أعمدته، لكنها اليوم تقف على الهامش، تتوسل المشاركة بعد أن كانت تُصنع حولها التحالفات.
تهميش مصر في مشروع القرن
الممر الاقتصادي الذي جرى الإعلان عنه في قمة مجموعة العشرين عام 2023 يهدف إلى ربط الهند بأوروبا عبر طرق بحرية وسكك حديدية تمر بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، دون أن تمر بمصر.
وهو ما يعد صفعة اقتصادية وجيوسياسية للقاهرة التي طالما اعتبرت قناة السويس شريان التجارة العالمية. فبدلاً من أن تكون مصر قلب المشروع، أصبحت تبحث عن "نافذة مشاركة" بعد اكتمال تصميمه دونها، وهو ما يكشف فشل الحكومة في استباق الأحداث وصياغة مصالحها بفاعلية.
ويبدو أن الخارجية المصرية اليوم تحاول تدارك الموقف بالحديث عن "الانفتاح على المشاركة"، لكن الواقع يؤكد أن مصر تواجه انكماشاً في نفوذها الإقليمي نتيجة سياسات داخلية وخارجية مرتبكة، جعلت الآخرين يعيدون رسم خرائط الممرات الاقتصادية دون اعتبار لدورها التاريخي.
خسائر البحر الأحمر: الثمن الفادح للجمود السياسي
أخطر ما ورد في تصريحات الوزير هو إقراره بخسائر تجاوزت 9 مليارات دولار منذ بدء الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر، وهو اعتراف ضمني بأن الاقتصاد المصري رهينة للتطورات الإقليمية دون أن تكون لدى الحكومة استراتيجية فعالة لحماية مصالحها.
فانخفاض عدد السفن المارة عبر قناة السويس من 75 إلى ما بين 25 و50 سفينة يومياً يعني تراجعاً بنسبة 60% في الإيرادات، وهو ما يمثل كارثة لاقتصاد يعتمد بشكل أساسي على دخل القناة كمصدر رئيسي للعملة الصعبة.
لكن بدلاً من مواجهة الأزمة بسياسات واقعية، اكتفت الحكومة بالتذمر وتبادل الاتهامات، دون تقديم أي حلول أو مبادرات دبلوماسية جادة لتأمين الممر الملاحي أو تعويض الخسائر.
إن تصريحات عبد العاطي تكشف أن الدولة، رغم معرفتها بالخطر منذ شهور، لم تتحرك بفاعلية، ولم تطور بدائل اقتصادية أو لوجستية. فمصر اليوم تدفع ثمن عجزها عن التحرك السياسي والاستراتيجي، في وقت استطاعت فيه دول مجاورة استثمار الاضطرابات لصالحها عبر جذب الممرات الجديدة وتوسيع نفوذها التجاري.
استثمارات هندية مرتقبة أم وهم جديد؟
وفي محاولة لتلميع الزيارة، تحدث الوزير عن سعي مصر لجذب استثمارات هندية، مشيراً إلى إنشاء منطقة صناعية هندية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، أسوة بالصينية والروسية.
لكن الواقع يشي بأن تلك المناطق الصناعية تحولت إلى شعارات متكررة بلا نتائج ملموسة، فالمستثمرون يفرّون من البيروقراطية المصرية، ومن غياب الضمانات القانونية، ومن ارتفاع كلفة التشغيل وضعف البنية التحتية.
بدلاً من جذب الاستثمارات، تسجل مصر خروجاً متزايداً لرؤوس الأموال الأجنبية وتراجعاً في احتياطي النقد، مما يطرح تساؤلاً مشروعاً: كيف ستنجح الحكومة في إقناع المستثمرين الهنود بينما تعجز عن الحفاظ على المستثمرين المحليين؟
دبلوماسية رد الفعل بدل المبادرة
المؤسف أن السياسة الخارجية المصرية باتت رد فعل متأخراً للأحداث، وليست فاعلاً في صناعتها.
فبينما تتحرك الهند والسعودية والإمارات بسرعة لقيادة مشروع الممر الاقتصادي، تقف القاهرة في موقع المتفرج، تبرر تأخرها بالظروف الإقليمية، وتربط كل مبادرة بـ"حل القضية الفلسطينية"، وكأنها تتخذ من الصراع ذريعة لتبرير العجز.
إن السياسة الرشيدة لا تنتظر التسويات الكبرى كي تتحرك، بل تبني نفوذها وسط التعقيدات. لكن الحكومة الحالية فقدت هذا الحس الاستراتيجي، واكتفت بخطاب دبلوماسي خالٍ من الفعل، لتجد نفسها اليوم خارج خريطة الممرات الجديدة وخارج حسابات المستقبل.
الخلاصة فإنتصريحات وزير الخارجية المصري تكشف أن القاهرة تعاني من فقدان الرؤية والتأثير في واحدة من أهم القضايا الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة.
فبينما تتشكل تحالفات جديدة تعيد رسم طرق التجارة، تكتفي الحكومة بالتصريحات وتبرير الخسائر، دون أن تقدم خطة واضحة لاستعادة الدور المصري.
إن ما يحدث ليس مجرد خسارة اقتصادية مؤقتة، بل إشارة خطيرة إلى تراجع المكانة المصرية في النظام الإقليمي والدولي، وهو تراجع لا يمكن تداركه بالحديث الدبلوماسي بل بإصلاح جذري للسياسات الاقتصادية والخارجية التي أوصلت البلاد إلى هذه النقطة من الضعف.