في مشهد لا يخلو من السخرية، وجد مصطفى بكري، أحد أبرز الأذرع الإعلامية لنظام عبد الفتاح السيسي وأكثرها صخبًا في الدفاع عنه، نفسه ضحية لنفس الآلة التي طالما كان جزءًا منها. قرار إيقاف برنامجه "حقائق وأسرار" على قناة "صدى البلد" لا يكشف فقط عن صراع مصالح داخل معسكر السلطة، بل يفضح بشكل صارخ هشاشة النظام الإعلامي الذي بنته الحكومة، ويؤكد أن الولاء المطلق لا يضمن الحصانة حين يتعلق الأمر بمساس مصالح "الحيتان الكبيرة".
القصة بدأت عندما قرر بكري، في لحظة "شجاعة" محسوبة، أن يرتدي عباءة المدافع عن الصناعة الوطنية ضد "إمبراطور الحديد" أحمد عز، أحد أقوى رموز نظام مبارك الذين تم إعادة تدويرهم في عهد السيسي.
شن بكري هجومًا حادًا على قرار حكومي يخدم مصالح عز الاحتكارية، معتبرًا أنه يهدد 22 مصنعًا آخر. للوهلة الأولى، بدا بكري وكأنه يمارس دورًا رقابيًا نادرًا في إعلام الصوت الواحد.
لكن سرعان ما تكشفت الحقيقة المرة: لقد تجاوز بكري الخط الأحمر المرسوم له، ولمس عصبًا حساسًا في شبكة السلطة والثروة التي تحكم مصر.
إن إيقاف البرنامج الفوري، الذي جاء بقرار من مالك القناة رجل الأعمال محمد أبو العينين، يكشف حقيقتين متلازمتين. الأولى هي أن الولاء في هذا النظام له حدود، وحدوده هي مصالح رجال الأعمال النافذين الذين يشكلون العمود الفقري الاقتصادي والسياسي للنظام.
فبين ولاء بكري للسيسي، وولاء أبو العينين لمصالح طبقته، انتصرت الثانية بلا تردد. الثانية هي السخافة الكامنة في دور بكري نفسه؛ فهو الذي قضى سنوات في تبرير كل قرار حكومي، ومهاجمة كل صوت معارض، وتخوين كل من ينتقد الأوضاع الاقتصادية، ليجد نفسه في النهاية يُعاقَب ليس لأنه عارض النظام، بل لأنه عارض أحد أقطابه.
وهنا يكمن النقد الأعمق الموجه للحكومة. إن هذه الحادثة هي دليل إدانة ضد النظام الذي بناه السيسي. فهو نظام لا يسمح بأي مساحة للنقد الحقيقي، ويعاقب حتى أبواقه المخلصة إذا ما انحرفوا قيد أنملة عن النص المكتوب.
لقد خلقت الحكومة وحشًا إعلاميًا مشوهًا، وظيفته الوحيدة هي التطبيل والتهليل، وعندما يحاول هذا الوحش ممارسة أبسط أشكال النقد (حتى وإن كان في إطار صراع أجنحة)، يتم لجمه فورًا.
هذا يؤكد أن ما يسمى بـ"الإعلام الوطني" ليس سوى مجموعة من الموظفين لدى رجال الأعمال والأجهزة الأمنية، وأن "السيادة الوطنية" التي يتغنى بها بكري ليل نهار، تتلاشى أمام مكالمة هاتفية من رجل أعمال غاضب.
إن ما حدث لمصطفى بكري هو درس قاسٍ له ولكل أمثاله، لكنه أيضًا كشف فاضح لطبيعة الحكم في مصر. إنه نظام لا يحتمل أي صوت، حتى لو كان صوته هو. نظام تحكمه شبكة مصالح معقدة، الولاء فيها ليس للقائد أو للوطن، بل للمال والنفوذ.
لقد أظهرت هذه الواقعة أن "الدولة العميقة" التي ادعى السيسي محاربتها، لم تمت، بل اندمجت معه في كيان هجين، يلتهم أبناءه عندما يتعارضون مع مصالحه. وبذلك، تحول بكري من صياد يهاجم "أعداء الوطن" إلى فريسة سهلة في بحر الحيتان التي يخدمها هو ونظامه.