شهدت إيرادات قناة السويس تراجعًا حادًا للعام الثاني على التوالي، مسجلةً أكبر انخفاض لها منذ عقدين، وفقًا لبيان صادر عن البنك المركزي المصري، إذ هبطت الإيرادات بنسبة 45.5% خلال السنة المالية 2024 / 2025 لتستقر عند 3.6  مليارات دولار، مقارنةً بـ 6.6  مليارات دولار في السنة السابقة.

وبذلك تكون القناة قد فقدت نحو 59% من عائداتها مقارنة بمستواها القياسي البالغ 8.8 مليارات دولار في السنة المالية 2022/2023، ما يعكس التدهور الحاد في أحد أبرز مصادر النقد الأجنبي للاقتصاد المصري.

 

التوترات الجيوسياسية في البحر الأحمر

وأرجعت البيانات هذا الانخفاض إلى تراجع حاد في حركة الملاحة والشحن عبر المجرى الملاحي، إذ تقلصت الحمولة الصافية للسفن العابرة بنسبة 55.1% لتصل إلى 482.8 مليون طن، بينما انخفض عدد السفن العابرة 38.5% ليبلغ نحو 12.4  ألف سفينة فقط.

وانعكس هذا الأداء سلبًا على الميزان التجاري غير البترولي الذي سجل عجزًا بقيمة 37.1 مليار دولار، بزيادة 5.2  مليارات دولار عن العام السابق، ما يعادل نموًّا بنسبة 16.3% في العجز.

ويعكس هذا التراجع العميق استمرار تأثر القناة بالتوترات الجيوسياسية في البحر الأحمر وتحول مسارات التجارة الدولية بعيدًا عن الممر المصري، مما يفرض ضغوطًا إضافية على ميزان المدفوعات واحتياطيات النقد الأجنبي، ويضع قناة السويس أمام تحديات استراتيجية غير مسبوقة تهدد مكانتها كممر تجاري عالمي ومحرك رئيسي للاقتصاد الوطني.

تُعد قناة السويس أحد أهم الأصول الاستراتيجية للاقتصاد المصري، وركيزة رئيسية في منظومة التجارة العالمية، إذ تمثل نحو 12% من حجم التجارة الدولية وقرابة 30% من حركة الحاويات عبر الممرات البحرية. وتكتسب القناة أهميتها من كونها حلقة الوصل بين البحرين المتوسط والأحمر، ما يجعلها المعبر الأقصر والأكثر كفاءة للتجارة بين أوروبا وآسيا والمحيط الهندي.

وبعد مشروعات التوسعة والتعميق التي نُفذت خلال السنوات الأخيرة، ارتفع طول القناة إلى 193 كيلومترًا بدلًا من 164، وزاد عمقها من 8  إلى 24 مترًا، فيما اتسع عرضها من 52  إلى 205 أمتار، الأمر الذي رفع كفاءتها التشغيلية وأسهم في تحقيق الملاحة على مدار 24 ساعة بعد أن كانت مقتصرة على ساعات النهار فقط.

 

تحديات اقتصادية

ورغم هذه التطويرات، تواجه القناة حاليًا تحديات اقتصادية وجيوسياسية معقدة انعكست على أدائها المالي. إذ يرى أحمد الشامي، مستشار النقل البحري وخبير اقتصاديات النقل ودراسات الجدوى، أن التراجع المتواصل في الإيرادات يعود إلى ما وصفه بـ"الضغوط الجيوسياسية" المفروضة على مصر، على خلفية موقفها من رفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، مشيرًا إلى أن هذه الضغوط تمس أحد أهم مصادر النقد الأجنبي في البلاد، ما يضطر الحكومة إلى تعويض النقص بالاستدانة الخارجية.

وأضاف الشامي في حديثه لموقع الجزيرة نت أن القناة كانت تتجه لتحقيق إيرادات قياسية جديدة قبل أن تؤدي الحرب على غزة وما تبعها من توترات في جنوب البحر الأحمر إلى تغيير مسارات العديد من شركات النقل البحري، مما أثر بشكل مباشر على حركة العبور والعائدات.

وأكد أن القناة –بطبيعتها الجغرافيةمرتبطة عضويًا بأمن المنطقة واستقرارها السياسي، مهما بلغ حجم الاستثمار في بنيتها التحتية، لافتًا إلى أن التطورات الأخيرة أثبتت أن عامل الأمان الجيوسياسي بات يتفوق على عامل الكفاءة الاقتصادية والوقت الذي توفره القناة، وهو ما يبرز حساسية الممر الملاحي المصري تجاه الأحداث الإقليمية ويضع أمامه تحديات استراتيجية متزايدة.

 

شبح التوترات يتغلب على الاستثمارات في القناة

يرى خبراء النقل والاقتصاد البحري أن التوترات الإقليمية المتصاعدة باتت تشكل التحدي الأكبر أمام قناة السويس، رغم الاستثمارات الضخمة التي ضُخت في تطويرها خلال العقد الأخير.

وأوضح أحمد الشامي، خبير اقتصاديات النقل، أن المليارات التي أنفقتها مصر لتوسيع وتعميق القناة لم تذهب سدى، بل عززت من مكانتها كممر ملاحي عالمي في أوقات الاستقرار، لكنها تظل عاجزة عن تحييد أثر الصراعات الإقليمية التي تؤثر مباشرة في حركة الملاحة والتجارة الدولية.

وأشار الشامي إلى أن مشروع تطوير القناة قبل عشر سنوات، الذي كلف الدولة مليارات الدولارات، أسهم في زيادة الازدواجية إلى 50% من طولها، وخفض زمن العبور والانتظار بدرجة كبيرة، مما رفع كفاءتها التشغيلية وقدرتها الاستيعابية، وعزز من مكانتها كمحور لوجستي عالمي، وركيزة أساسية في خطة مصر للتحول إلى مركز تجاري إقليمي.

 

تداعيات اقتصادية على ميزان المدفوعات والاحتياطي النقدي

من جانبه، حذر حسن الصادي، أستاذ اقتصاديات التمويل بجامعة القاهرة، من أن استمرار تراجع إيرادات قناة السويس سيترك أثرًا سلبيًا مباشرًا على ميزان المدفوعات المصري واحتياطي النقد الأجنبي.

وأوضح الصادي أن الانخفاض المتواصل في الحصيلة الدولارية الناتجة عن القناة سيُجبر الدولة على زيادة الاعتماد على بيع الأصول السيادية في ظل محدودية الاقتراض الخارجي، وهو ما اعتبره حلًا مؤقتًا وغير مستدام.

وأضاف أن الاعتماد المفرط على تسييل الأصول لسد العجز الدولاري قد يؤدي إلى تآكل الاحتياطي النقدي للبنك المركزي بمرور الوقت، مما يزيد الضغوط على الجنيه المصري ويقيد قدرة الدولة على تمويل وارداتها الحيوية.

 

تعافٍ مشروط بعودة الاستقرار الإقليمي

ورغم الصورة القاتمة، أبدى الصادي تفاؤلًا حذرًا بإمكانية تعافي إيرادات قناة السويس تدريجيًا، بشرط وقف الحرب وعودة الهدوء التام إلى البحر الأحمر.

وأشار إلى أن القناة ستحتاج إلى فترة زمنية للتعافي تعتمد على مدى سرعة عودة شركات الشحن البحري لاستخدام المسار المصري، واستعادة ثقتها في أمن الممر الملاحي.

واعتبر الصادي أن الهبوط الحاد في الإيرادات لا يعكس مشكلة هيكلية في القناة ذاتها، بل هو تأثير مؤقت للأوضاع الجيوسياسية الراهنة، متوقعًا تحسنًا ملموسًا في الأداء بمجرد التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للصراع في غزة واستقرار المنطقة.