بينما تواصل الحكومة المصرية بث رسائل التفاؤل بشأن أداء الاقتصاد، يعيش المواطنون واقعاً مغايراً تماماً، تتزايد فيه الأسعار بوتيرة متسارعة وتنهار فيه القدرة الشرائية يومًا بعد يوم. فالتقارير الرسمية نفسها لم تعد قادرة على إخفاء حقيقة تصاعد التضخم وتفاقم الأعباء المعيشية، في وقت تستعد فيه الحكومة لجولة جديدة من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي يُتوقع أن تفتح الباب أمام موجة غلاء جديدة تضرب الفئات محدودة الدخل.

 

تضخم يرتفع رغم الوعود

أحدث بيانات البنك المركزي المصري كشفت عن تسارع معدل التضخم الأساسي السنوي إلى 11.3% في سبتمبر 2025، مقابل 10.7% في أغسطس، مع زيادة شهرية في أسعار المستهلكين بنسبة 1.5%، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. هذه الأرقام تؤكد أن الضغوط التضخمية مستمرة رغم ما تسميه الحكومة بسياسات "التهدئة النقدية".

ويرى خبراء الاقتصاد أن هذه الزيادة تعكس فشل السياسات الحكومية في السيطرة على الأسعار، إذ تركزت الجهود على رفع أسعار الفائدة وخفض الإنفاق العام دون معالجة الأسباب الهيكلية للتضخم، وعلى رأسها تراجع الإنتاج المحلي وضعف الجنيه أمام الدولار.

في الوقت نفسه، سجل الاقتصاد خلال العام المالي 2024/2025 عجزاً تجارياً بلغ 15.4 مليار دولار، وهو تراجع بنسبة 25.9% عن العام السابق، لكنه ناتج ـ وفق محللين ـ عن انكماش الاستيراد الإجباري بسبب شح الدولار، لا عن تحسن في الصادرات أو زيادة في الإنتاج.

 

الخطاب الرسمي: تفاؤل في مواجهة الانهيار

في مواجهة هذه الحقائق، يواصل المسؤولون إطلاق تصريحات وصفها اقتصاديون بـ"المنفصلة عن الواقع".

فقد أكد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أن الحكومة تتوقع هبوط التضخم إلى 8% خلال النصف الثاني من 2026، بينما أعلن المتحدث باسم مجلس الوزراء محمد الحمصاني أن "مصر تجاوزت الموجة التضخمية العالمية" وأن "المؤشرات الإيجابية دليل على نجاح السياسات الاقتصادية".

حتى عبد الفتاح السيسي تحدث مراراً عن "تحسن ملحوظ في الوضع الاقتصادي"، في وقت تشير فيه مؤشرات السوق إلى العكس تماماً.

فوفق تقرير دولي صدر العام الماضي، حين أعلنت الحكومة أن التضخم بلغ 26.3% في سبتمبر 2024، قدّر مؤشر أمريكي أن المعدل الحقيقي وصل إلى 62%، ما يعكس فجوة هائلة بين البيانات الرسمية ومعاناة المواطنين اليومية.

هذا التناقض، بحسب خبراء، يثير الشكوك حول مدى مصداقية الخطاب الحكومي، ويعكس إصرار السلطة على تجميل الصورة العامة بدلاً من مواجهة الأسباب الحقيقية للأزمة الاقتصادية.

 

قرابين جديدة لصندوق النقد

في الأفق، تلوح جولة جديدة من التفاوض مع صندوق النقد الدولي بشأن القرض البالغ 8 مليارات دولار الموقع في مارس 2024. وتستعد القاهرة لاستقبال بعثة الصندوق لإجراء المراجعتين الخامسة والسادسة، وسط مؤشرات على أن الحكومة تعتزم تقديم تنازلات مؤلمة للمواطنين لضمان الحصول على الدفعتين المقبلتين من القرض، والبالغتين 2.4 مليار دولار.

ويحذر الخبير الاقتصادي مصطفى عبد السلام من أن الحكومة ستقدم ما وصفه بـ"القرابين الاقتصادية"، عبر رفع جديد في أسعار الطاقة والخدمات، في محاولة لإرضاء الصندوق. وتشمل الزيادات المتوقعة:

- الكهرباء والبنزين والسولار والغاز المنزلي.

- الضرائب والرسوم الحكومية على المعاملات والخدمات العامة.

- المواصلات والاتصالات والأدوية التي يطالب القطاع الخاص بزيادتها بنسبة تصل إلى 30%.

هذه السياسات، كما يؤكد عبد السلام، ستدفع البلاد إلى موجة تضخمية أشد، حيث ستنعكس زيادات الأسعار الرسمية على تكاليف المعيشة اليومية من إيجارات ومصاريف تعليم وصحة، ما يعني عملياً تحميل المواطن عبء فشل السياسات الحكومية في إدارة الأزمة.

 

سياسات مرتجلة وأزمة ثقة متفاقمة

لا تقتصر الأزمة على الأرقام، بل تتجسد في فقدان الثقة بين الحكومة والشارع. فبعد تسع سنوات من الإصلاحات المزعومة، لا تزال نتائجها بعيدة عن الواقع المعيشي. إذ تركز الدولة على الاقتراض وبيع الأصول كمصادر مؤقتة للعملة الأجنبية، بينما تتراجع الصناعة والزراعة، ويتآكل دخل الطبقة المتوسطة أمام موجات الغلاء المتكررة.

ويرى مراقبون أن ما تسميه الحكومة "إصلاحات هيكلية" لم يعد سوى حلقة جديدة من تدوير الأزمة دون حلول جذرية، بل بقرارات ارتجالية تزيد الوضع تعقيداً.

ومع اقتراب زيارة بعثة الصندوق، يبدو أن المواطن المصري مقبل على مرحلة جديدة من التقشف والضرائب، فيما تواصل الحكومة الحديث عن "الاستقرار والنمو".

وفي ظل هذا التناقض الصارخ بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني، يبدو أن الغلاء القادم لن يكون مجرد أزمة مؤقتة، بل فاتورة مؤلمة لسياسات اقتصادية فاشلة دفع ثمنها الشعب، ولا يزال يدفعها يوماً بعد يوم.