يثير الأداء الأخير لوكالات التصنيف الائتماني العالمية موجة متجددة من الجدل، خصوصاً في ظل حالة التدهور الاقتصادي التي تعيشها مصر.
فبينما تتهاوى مؤشرات الاقتصاد المصري من عملة متدهورة، وديون متفاقمة، وتراجع في الإنتاج والاستثمار، جاءت تقارير وكالات التصنيف لتمنح البلاد "تحسناً شكلياً" لا يعكس الواقع، مما أعاد إلى الواجهة تساؤلات حول مدى استقلالية هذه المؤسسات ومصداقية قراراتها.
ففي الوقت الذي تتصاعد فيه أصوات خبراء اقتصاديين يتهمون هذه الوكالات بأنها أصبحت أدوات سياسية ذات أهداف مشبوهة، تطفو إلى السطح اتهامات بتضارب المصالح والفساد، لتضع مصداقية تقاريرها على المحك.
ويتجسد هذا الجدل في تشكيك الخبير الاقتصادي المصري هاني توفيق في قرار رفع التصنيف الائتماني لمصر، معتبراً إياه قراراً سياسياً لا يعكس أي تغيير هيكلي حقيقي في الاقتصاد.
تشكيك في الجدوى الاقتصادية لرفع تصنيف مصر
علق الخبير الاقتصادي هاني توفيق بشكل نقدي على قرار وكالات مثل فيتش وستاندرد آند بورز برفع التصنيف الائتماني لمصر من "B-" إلى "B" مع نظرة مستقبلية مستقرة أو إيجابية، رغم الانهيار الملموس في الواقع المعيشي.
ويرى توفيق أن هذا التحسن لا يعكس تحسناً جوهرياً في بنية الاقتصاد المصري، بل هو نتيجة لزيادة مؤقتة في السيولة ناجمة عن بيع أصول الدولة، في محاولة يائسة لتغطية عجز الموازنة وتراجع الإيرادات.
وقد أكد توفيق في مناسبات عدة أن مؤسسات التصنيف الائتماني ما هي إلا "وكالات سياسية ذات أهداف مشبوهة"، مشيراً إلى أن تقاريرها قد تكون "مسيسة" ولا يجب الاعتماد عليها كمقياس دقيق لمؤشرات الاقتصاد.
وليست هذه المرة الأولى التي يبدي فيها توفيق تشككه؛ ففي عام 2015، ربط بين رفع التصنيف الائتماني لمصر وبين انعقاد مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، معتبراً أن مثل هذه القرارات تتأثر بالأحداث السياسية أكثر من الحقائق الاقتصادية الصلبة.
تضارب المصالح وتاريخ من الأزمات
إن انتقادات هاني توفيق تأتي في سياق عالمي متزايد من التشكيك في نزاهة وكالات التصنيف، خصوصاً في فترات الأزمات الاقتصادية المتكررة.
فلطالما واجهت هذه الصناعة اتهامات بوجود تضارب حاد في المصالح، إذ تتقاضى الوكالات أموالاً من نفس الجهات التي تصدر بحقها التقييمات.
وخلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، اتُهمت الوكالات بتضخيم التصنيفات لإرضاء الشركات التي تدفع مقابل خدماتها، مما ساهم في انهيار الأسواق، وهي فضيحة تكشف أن معايير "الثقة" نفسها يمكن أن تُشترى بالمال.
كما يتهمها صندوق النقد الدولي بتضخيم المخاطر النظامية، حيث تشجع على الاستثمار المفرط في أوقات النمو (مما يخلق فقاعات) وتزيد من حدة الأزمات بخفض التصنيفات في أوقات الصعوبات، وهو ما حدث في أزمات ديون دول أوروبية مثل اليونان وإسبانيا.
وفي ظل الأزمة المصرية الحالية، يتساءل كثيرون ما إذا كانت هذه المؤسسات تكرر النمط ذاته بتقديم تقييمات غير واقعية لاقتصاد يترنح تحت وطأة الديون والغلاء وانكماش الإنتاج.
وتتجاوز الاتهامات مجرد التحليل النظري، فقد تم تغريم وكالة "فيتش" بأكثر من 5 ملايين يورو في عام 2019 لفشلها في الامتثال لتشريعات منع تضارب المصالح. كما تم تغريم وكالة "موديز" بمبلغ 3.7 مليون يورو لتصنيفها كيانات كانت شركة "بيركشاير هاثاواي" مساهمة فيها، علماً بأن "بيركشاير هاثاواي" هي أكبر مساهم في "موديز" نفسها، مما يمثل تضارب مصالح صارخاً. هذه الوقائع دفعت جهات دولية، مثل رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، للمطالبة بإصلاح جذري لنظام التصنيف الائتماني العالمي لمعالجة هذه القضايا، لا سيما بعدما أثبتت التجارب أن هذه الوكالات قد تتلاعب بالأرقام لخدمة مصالح معينة حتى في ظل انهيارات اقتصادية واضحة.
اتهامات بالفساد والتلاعب وسط أزمة اقتصادية خانقة
تصل الانتقادات الموجهة لهذه المؤسسات إلى اتهامات مباشرة بالفساد والتلاعب بالبيانات، وهو ما يعيد تسليط الضوء على ما يحدث في مصر اليوم.
فبينما يعيش الاقتصاد المصري أسوأ مراحله منذ عقود، من تضخم يتجاوز 35%، وتآكل غير مسبوق في الجنيه، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، تصدر وكالات التصنيف تقارير "مطمئنة" تخالف الواقع الميداني.
وعلى الرغم من صعوبة إثبات وقائع محددة تتعلق بتلقي رشاوى من دول لتغيير نسب النمو الاقتصادي، فإن مجرد وجود مثل هذه الادعاءات يعكس عمق أزمة الثقة في هذه المؤسسات.
وتتحدث تقارير إعلامية عن قضايا فساد تشمل تلقي مسؤولين أموالاً لتحسين صورة دول في الخارج، وهي جرائم تتضمن الرشوة وغسيل الأموال وخيانة الأمانة، وهي بالضبط البيئة التي تُستغل فيها مؤشرات التصنيف لتغطية التدهور الحقيقي.
إن القوانين في دول مثل الصين تجرم بوضوح تقديم الرشوة لمسؤولين في منظمات دولية عامة، مما يشير إلى أن مخاطر الفساد والتلاعب حقيقية ومعترف بها على المستوى التشريعي.
وفي المحصلة، سواء كانت قرارات وكالات التصنيف نابعة من ضغوط سياسية، أو تضارب في المصالح، أو فساد مباشر، فإن الجدل المحيط برفع تصنيف مصر الأخير يسلط الضوء على حقيقة أكبر: وهي أن هذه التقارير تُستخدم لتجميل صورة اقتصاد آخذ في الانهيار، لا لتقييمه بموضوعية.
تصنيف مرتفع لاقتصاد متدهور
بينما تتباهى الحكومة بتقارير الوكالات، يعاني المواطن المصري من واقع مغاير تماماً: أسعار تتضاعف، ضرائب تتزايد، بطالة تتسع، واستثمارات تتراجع. وفي ظل هذا المشهد، يبدو رفع التصنيف الائتماني لمصر مجرد "شهادة سياسية" لا تستند إلى أرضية اقتصادية صلبة، بل إلى سيولة زائلة من بيع أصول الدولة، وديون جديدة تعمّق التبعية وتؤجل الانهيار لا أكثر.