في مشهد متناقض يعكس طبيعة اللحظة التاريخية الراهنة، تتحدث القيادات الإسرائيلية علناً عن مخاطر خوض حرب شاملة وعدم القدرة على تحمل تبعاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، في الوقت نفسه الذي يخرج فيه الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو من على منبر الأمم المتحدة ليعلن تدشين حملة تسجيل أسماء المتطوعين الراغبين في المشاركة بحرب تحرير فلسطين.

هذا التباين الحاد يطرح أسئلة عميقة حول موازين القوى في المنطقة والعالم، ومدى التحول في صورة الصراع العربي – الإسرائيلي من قضية إقليمية إلى قضية إنسانية وعالمية.

 

إسرائيل: خطاب العجز والخوف من الاستنزاف

خلال الأشهر الماضية، تكررت تصريحات مسؤولين إسرائيليين حول "عدم الرغبة في حرب طويلة" و"العجز عن تحمّل مواجهة متعددة الجبهات". المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تواجه أزمات غير مسبوقة: تآكل قدرة الجيش على حسم المعارك، تراجع الجبهة الداخلية تحت ضغط الخسائر البشرية والاقتصادية، والأهم انكشاف هشاشة الاقتصاد الإسرائيلي أمام الحصار والمقاطعة وتراجع الاستثمارات الأجنبية.

https://www.tiktok.com/@aljazeera/video/7512118525763341575

وتبدو تصريحات إسرائيل عن "تفادي الحرب" محاولة مزدوجة: من جهة تسعى لطمأنة الداخل المذعور من توسع الصراع، ومن جهة أخرى تستجدي الدعم الغربي لاستمرار العدوان على غزة تحت غطاء "الضرورات الأمنية". لكن جوهر الخطاب يكشف ضمور قدرة إسرائيل على خوض حرب استنزاف طويلة، وهو ما ينعكس في الضغوط على واشنطن وأوروبا لتكثيف المساعدات العسكرية والمالية.

 

كولومبيا: تحويل فلسطين إلى معركة إنسانية عالمية

في المقابل، جاء خطاب الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو بمثابة صدمة للنظام الدولي، إذ لم يكتفِ بتجديد الدعم السياسي لفلسطين، بل دعا شعوب العالم لتسجيل أسمائهم ضمن قوائم متطوعين لحرب التحرير. هذه الدعوة تنقل القضية الفلسطينية من نطاقها الإقليمي والعربي إلى أفق أممي أوسع، يربطها بالنضال ضد الاستعمار والاستبداد والتمييز العنصري.

https://www.tiktok.com/@aljazeera_mubasher/video/7554865469602237703

بيترو أعاد إحياء خطاب المقاومة الأممية الذي ارتبط تاريخياً بحركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكنه هذه المرة يوجهه ضد "إسرائيل" باعتبارها دولة استعمارية استيطانية ترتكب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني. وبهذا يفتح الباب أمام عودة "التضامن الثوري العالمي" في زمن العولمة، حيث يمكن للشبكات المدنية والحقوقية أن تتحول إلى قنوات فعلية لدعم الشعب الفلسطيني بالمتطوعين والموارد.

 

التناقض: دولة مدججة بالسلاح تخشى المواجهة وشعوب تتطوع للتحرير

المفارقة الكبرى تكمن في أن إسرائيل، الدولة المدعومة بترسانة نووية وتكنولوجيا عسكرية متقدمة، تعلن عجزها عن الحرب، بينما تتحرك شعوب من أقاصي الأرض للتطوع في مواجهة هذه القوة. هذا التناقض يكشف حقيقة جوهرية: أن ميزان القوة لا يُقاس فقط بكمية السلاح، بل بمدى الشرعية الأخلاقية والسياسية للقضية.

إسرائيل التي تقدم نفسها كـ"واحة ديمقراطية" أصبحت رمزاً للقتل والحصار والإبادة، بينما فلسطين، رغم الجراح، تحولت إلى أيقونة للنضال الإنساني. وبذلك يضعف الخطاب الإسرائيلي أمام العالم، ويقوى خطاب التضامن الأممي الذي يتجسد في مبادرات كولومبيا وغيرها من الدول اللاتينية والإفريقية.

 

البعد الدولي: تحولات في الرأي العام

لا يمكن قراءة هذه المفارقة بمعزل عن التحولات الدولية الأوسع. فمع تزايد النفور الشعبي العالمي من السياسات الإسرائيلية، خاصة بعد المجازر في غزة، يتسع نطاق حركة المقاطعة ويزداد الضغط على الحكومات الغربية الداعمة للاحتلال. في المقابل، باتت دول مثل كولومبيا ترى في تبني خطاب تحرير فلسطين وسيلة لتكريس حضورها الدولي كمدافع عن العدالة والكرامة الإنسانية.

إضافة إلى ذلك، فإن دعوة بيترو للتطوع ليست مجرد خطوة رمزية، بل قد تفتح الباب لسيناريوهات عملية: متطوعون يتدفقون على غزة أو الضفة، تضامن شعبي عالمي يحاصر الحكومات الداعمة لإسرائيل، وربما إحياء نماذج تاريخية كتجربة "الألوية الدولية" في الحرب الأهلية الإسبانية.

وفي النهاية وبينما تصرخ إسرائيل من "الخوف من الحرب"، يعلو صوت كولومبيا معلناً فتح باب التطوع لتحرير فلسطين. المشهد لا يعكس فقط التناقض بين قوة عسكرية تعيش أزمة شرعية وبين شعوب تستعيد روح المقاومة العالمية، بل يكشف أيضاً أن القضية الفلسطينية تجاوزت حدود الجغرافيا لتصبح اختباراً أخلاقياً للإنسانية جمعاء. وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي يعوّل على تفوقه العسكري والتكنولوجي، فإن العالم بدأ يتشكل من حوله كجبهة أخلاقية وإنسانية رافضة، قد تكون أخطر عليه من أي سلاح.