مرة أخرى، يثبت الواقع الرياضي في مصر أن الكفاءة وحدها لا تكفي للبقاء تحت علم الوطن، بل إن الفساد الإداري، وانعدام الدعم، وصراعات الاتحادات الرياضية، تدفع الأبطال إلى طرق أبواب بلدان أخرى تمنحهم الاحترام والتقدير.
قرار شروق وفا، بطلة إفريقيا في الشطرنج، بتمثيل إيرلندا بدلًا من مصر، ليس حادثة معزولة، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من هجرة الرياضيين المصريين، الذين اضطروا إلى التخلي عن حلم رفع العلم المصري بسبب الإهمال الحكومي والشللية داخل الاتحادات. وهنا تبرز أزمة أعمق: كيف تحولت مصر من بلد يُصدِّر المواهب إلى بلد يطردها؟
شروق وفا.. من ذهبية إفريقيا إلى الغربة الرياضية
شروق وفا، المصنفة الأولى إفريقيًا في الشطرنج، لمع نجمها خلال السنوات الأخيرة بفضل سلسلة من الانتصارات الدولية.
ومع ذلك، اصطدمت بواقع مرير داخل اتحاد الشطرنج المصري: نقص الدعم المالي، غياب الرعاية المؤسسية، واتهامات متكررة بسوء الإدارة والتمييز بين اللاعبين.
وبحسب مقربين منها، فإن تجاهل الاتحاد لمطالبها المتكررة بالدعم في البطولات الخارجية، وغياب العدالة في اختيار قوائم المنتخب، كانا السبب المباشر وراء اتخاذها القرار الصعب بتمثيل إيرلندا.
لماذا أيرلندا؟ وما الذي وفرته؟
اختارت شروق وفا إيرلندا لسببين أساسيين:
- التقدير المؤسسي: الاتحاد الإيرلندي للشطرنج عرض عليها الانضمام للمنتخب مع ضمان تمويل مشاركاتها الدولية.
- الاستقرار النفسي: وجود بيئة شفافة بعيدًا عن المحسوبية والبيروقراطية.
هذا العرض، الذي يُعَدّ طبيعيًا في بلدان تحترم الرياضيين، كان بالنسبة لشروق نقلة نوعية، مقارنة بما واجهته في مصر من تهميش متعمد.
أزمة متكررة
وسبق أن هاجر العديد من اللاعبين الذين تركوا جحيم الرياضة في مصر، أبرزهم:
- طارق عبدالسلام: هرب من معسكر المنتخب في عام 2017 إلى بلغاريا، وتحوّل لتمثيلها، وحصل على ميدالية ذهبية في بطولة أوروبية باسمها.
- أحمد حسن «بوشا»: هرب من معسكر منتخب الشباب في أغسطس 2017 أثناء بطولة العالم في فنلندا، ورفض العودة، وبعد عامين حصل على جنسية المجر.
- حسن حسن «بوشا»: شقيق أحمد بوشا، هرب بعد عام 2019 إلى المجر، وشارك في بطولات باسمها.
- إبراهيم غانم «الونش»: هرب أثناء وجوده مع المنتخب في بطولة العالم تحت 23 عامًا، ثم انتقل إلى فرنسا، حيث يُقال إنه فاز ببطولة مصارعة ورفع علمها.
- محمد عصام: هرب من معسكر المنتخب المصري في إيطاليا عام 2022 خلال معسكر تحت 17 سنة.
- أحمد بغدودة: هرب من معسكر منتخب المصارعة في تونس في مايو 2023 بعد مشاركته في البطولة الأفريقية، وكان قد حصل على المركز الثاني فيها قبل الهروب.
- سيف شكري الكومي: تخلّف عن معسكر المنتخب في دبي، وذهب إلى إيطاليا أثناء فعاليات المعسكر.
- عبدالرحمن مجدي: لاعب منتخب الجمباز، هرب إلى تركيا في أبريل 2018، ونال جنسيتها، وبدأ يشارك باسمها.
- فارس حسونة: لاعب رفع الأثقال المصري، مثّل قطر في الأولمبياد وحقق الميدالية الذهبية باسمها في طوكيو 2020، بعدما لم يحصل على الدعم الكافي في مصر.
- محمد الشوربجي: أعلن في يونيو 2022 حصوله على الجنسية البريطانية، وبدأ يمثل إنجلترا في بطولات الإسكواش.
- مروان الشوربجي: في يوليو 2023 اتخذ قرارًا باللعب باسم بريطانيا أيضًا، مبررًا ذلك بقلة الدعم في مصر.
- عمر حسن الطاهر: لاعب من ذوي الهمم (المكفوفين)، هرب إلى الخارج أثناء بطولة العالم لكرة الجرس في السويد عام 2018، وساعده أحد أقاربه في الهروب والتجنيس.
أزمة الاتحادات الرياضية في مصر
ما يحدث ليس مجرد حالات فردية، بل نتيجة مباشرة لما تعانيه الاتحادات المصرية من:
- فساد إداري وتوريث المناصب.
- غياب استراتيجيات اكتشاف المواهب.
- تجاهل ملف الدعم المالي للبطولات الخارجية.
- بيروقراطية تعرقل مسيرة اللاعبين بدلًا من دعمهم.
ويرى خبراء أن وزارة الرياضة المصرية نفسها متورطة في هذه الأزمة، إذ تغض الطرف عن تقارير الفساد وتكتفي بتعيين مجالس إدارات مؤقتة لا تغيّر من الواقع شيئًا.
شروق وفا كنموذج صارخ
قرار شروق وفا يمثل صرخة احتجاج صامتة ضد المنظومة الرياضية المصرية. فكيف لبطلة إفريقية تحمل ذهبية القارة أن تخرج مضطرة لتحمل علم دولة أخرى؟ هذا المشهد يطرح تساؤلات خطيرة حول مستقبل المواهب المصرية، وما إذا كانت ستجد مكانًا لها في وطنها، أم أن الهجرة الرياضية ستصبح القاعدة بدلًا من الاستثناء.
وفي ضوء ما سبق، فإن رحيل شروق وفا إلى إيرلندا يُعَدّ إدانة صريحة لاتحاد الشطرنج المصري، وللحكومة التي تترك اتحاداتها تدير الرياضة بعقلية الغنيمة. مصر التي طالما أنجبت أبطالًا عالميين، باتت اليوم تخسرهم بسبب الفساد والإهمال. الرسالة واضحة: إن لم يتحرك صانعو القرار لإصلاح جذري وشامل في الاتحادات، فإن نزيف الأبطال سيستمر، وسيصبح رفع علم مصر في المحافل العالمية مجرد ذكرى بعيدة.