مع نهاية سبتمبر 2025، انفجرت في المغرب موجة احتجاجات واسعة قادها أبناء جيل زد. خرج الشباب إلى الشوارع رفضًا لانهيار منظومتي التعليم والصحة، وتعبيرًا عن يأسٍ عميق من مستقبل لم يعد يَعِد بشيء. الاحتجاجات لم تكن مجرد تضامن سطحي مع الأطباء؛ بل كانت صرخة ضد نزيف العقول الذي يترك البلاد بلا نخبتها الطبية، في وقت ترتفع فيه تكلفة المعيشة وتنهار الخدمات العامة.

 

الحكومة المغربية، على غرار نظيرتها المصرية، لم ترَ في هجرة الأطباء أزمة تستوجب المواجهة، بل فرصة للتخفيف من ضغوط القطاع الصحي، ووسيلة غير معلنة للحصول على تحويلات مالية. وهكذا، بدا جيل الشباب وكأنه يثور ضد منطق دولة تعتبر فقدان أفضل عقولها "مكسبًا" وليس كارثة.

 

أزمة تمتد عبر شمال إفريقيا

 

المغرب لم يكن وحده في هذه المعادلة القاتمة. تونس ومصر تعيشان السياق نفسه: خدمات صحية تتدهور رغم الخطاب الرسمي الذي يكرر أن "عدد الأطباء كافٍ". لكن الحقائق أكثر قسوة بكثير.

 

تقرير مصوّر لشبكة سي إن إن أظهر أن المشكلة ليست في الأعداد، بل في الاحتفاظ بالأطباء. فدول شمال إفريقيا الثلاث تضم نظريًا نحو 300 ألف طبيب، بمعدل 19 طبيبًا لكل 10 آلاف نسمة؛ أعلى من المتوسط العالمي. لكن الواقع يقول إن:
الكفاءات تمشي.. والدول الأوروبية تستقبل.

 

لماذا يهاجر الأطباء؟

 

الهجرة الطبية ليست نزوة؛ إنها بحث عن بيئة عمل متوازنة وأجور عادلة. الأطباء في مصر والمغرب وتونس يعملون ساعات طويلة بأجور لا تكفي لتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات، وسط بيئة طبية تفتقر للتجهيزات الحديثة، وفرص البحث العلمي، والأمان المهني.

 

منذ السبعينيات كانت دول الخليج هي الوجهة المفضلة للأطباء المصريين، لكن مع 2019 تضاعف عددهم في بريطانيا، حيث يُقدَّر الطبيب ويُحترم وقته ويُكافأ ماديًا. من ناحية أخرى، تواجه أوروبا أزمة ضخمة:

 

  • بريطانيا خسرت 20 ألف طبيب في عام 2024.

 

  • الاتحاد الأوروبي مهدد بعجز يصل إلى 600 ألف طبيب بحلول 2030.

 

ولذلك، تبنّت الحكومات الأوروبية سياسات نشطة لاستقطاب الأطباء المهرة من خارج الاتحاد، وفي مقدمتهم أطباء شمال إفريقيا.

 

حين تستجيب حكوماتنا للطلب الأوروبي.. لا لاحتياجات شعوبها

 

بدلًا من مواجهة أزمة النزيف البشري، اتجهت حكومات مصر والمغرب وتونس إلى زيادة أعداد خريجي كليات الطب، ليس لضمان تحسين الصحة العامة، بل لتلبية الطلب الأوروبي المتزايد.

 

بحسب سي إن إن، شهد عام 2023 وحده هجرة نحو 9000  طبيب من الدول الثلاث؛ ما يعادل 11.5% من إجمالي الأطباء المسجلين.


أي أن الدولة تُخرِّج الطبيب ثم تُصدّره بعد سنوات من الاستثمار المكلف، دون أن تستفيد من خبراته.

 

اقتصاد التحويلات.. رؤية حكومية قاصرة

 

في مصر، تبدو الصورة أكثر وضوحًا. ففي خطاب سابق، اعتبر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أن "خروج الشباب للعمل بالخارج جزء من قوة مصر الناعمة". لكنه لم يتحدث عن انهيار المستشفيات أو نقص الأطباء أو سوء الخدمات الصحية.

 

الحل الحكومي كان غريبًا: زيادة عدد خريجي الطب لتغطية السوق الأوروبية!

 

أي أن الدولة تتعامل مع العقول الماهرة كسلعة جاهزة للتصدير، لتحصيل "عملة صعبة" عبر التحويلات، وليس كقوة بشرية يجب الحفاظ عليها لتطوير النظام الصحي.

 

الإحصاءات تشير إلى أن أكثر من 60% من الأطباء الجدد في مصر يهاجرون خلال أول خمس سنوات من تخرجهم. والأمر نفسه يحدث في تونس والمغرب.

 

ليست أزمة أطباء فقط.. بل أزمة نظام حكم

 

الهجرة لا تقتصر على الأطباء. مصر أصبحت طاردة لـ:

  • الأطباء
  • المهندسين
  • المحامين
  • المعلمين
  • الصحفيين
  • المتخصصين في علوم البيانات والهندسة والتكنولوجيا

 

كلهم يبحثون عن حياة كريمة في مكان آخر، بينما تعجز الدولة عن توفير بيئة تُمكّنهم من البقاء.

 

قيمة الطبيب.. رأس مال بشري تُهدره الدولة

 

إنتاج طبيب واحد يحتاج:

  • 7  سنوات دراسة جامعية
  • 2  إلى 6 سنوات تدريب مكثف
  • منظومة تعليمية كاملة
  • مستشفيات تدريب
  • بنية تحتية صحية مكلفة

 

هذا الاستثمار الباهظ يُنتَج في مصر (أو المغرب أو تونس)، ثم يهاجر الطبيب للعمل في أوروبا التي تعاني من الشيخوخة السكانية. فتستفيد أوروبا من رأس المال البشري، بينما تدفع الدولة المصدِّرة كامل تكلفة الإنتاج دون أن تحصل على العائد.

 

إنها خسارة مركبة وليست مجرد نقص في الأعداد.

 

تأثيرات الهجرة على من يبقى

 

حين يغادر طبيبٌ البلد، يتحمل زملاؤه عبء العمل المتزايد، ما يؤدي إلى:

 

  • إرهاق مهني شديد
  • زيادة الأخطاء الطبية
  • ضعف جودة الخدمة
  • انهيار الرضا الوظيفي
  • رغبة أكبر في الهجرة

 

فينشأ حلقة جحيمية:

 

يهاجر طبيب → تزداد الضغوط → يعمل الآخرون بشكل أسوأ → يهاجرون هم أيضًا.

 

أثر مباشر على المرضى

 

كل طبيب يهاجر يعني:

 

  • زيادة قوائم الانتظار
  • نقص التخصصات الدقيقة
  • انتشار الأخطاء الطبية
  • انهيار الثقة في المنظومة الصحية
  • ارتفاع تكاليف العلاج الخاص

 

والمرضى يدفعون الثمن أولًا.. وآخرًا.

 

دور الدولة: حارس الصحة لا سمسار الأطباء

 

وظيفة الحكومة ليست أن تكون مكتب إلحاق عمالة بالخارج.

 

ولا أن تتعامل مع الأطباء كـ"سلعة للتصدير".

 

ولا أن تفخر بعدد المصريين المهاجرين بينما تنهار المستشفيات في الداخل.

 

دور الدولة هو:

 

  • الحفاظ على المهنيين المتميزين
  • تحسين بيئة العمل
  • رفع الأجور بما يحفظ الكرامة
  • الاستثمار في المستشفيات والتعليم الطبي
  • وضع سياسات للهجرة توازن بين احتياجات الداخل وخيارات الخارج

 

تفريغ الوطن من أفضل عقولها

 

الطبيب الذي يهاجر عادة ما يكون:

 

  • من المتفوقين
  • الأكثر اجتهادًا
  • الأكثر إتقانًا للغات
  • الأكثر تدريبًا
  • صاحب أعلى كفاءة

 

هؤلاء هم الطبقة المهنية الذهبية، وخسارتهم ليست مجرد رقم ينقص من جدول وزارة الصحة، بل ضربة قاتلة لرأس المال البشري.

 

وما تعجز الحكومة عن فهمه هو أن "تحويلات المصريين" لا تعوض خسارة عقل طبي ماهر قضت الدولة عقدًا كاملًا في صنعه، ثم خسرته بأبسط الطرق.

 

الخلاصة: نزيف لا يتوقف

 

هجرة الأطباء في مصر والمغرب وتونس ليست مجرد قرار فردي؛ إنها نتيجة مباشرة لفشل أنظمة الحكم في إدارة مواردها البشرية، وفشلها في تقديم بيئة صحية تليق بمواطن أو طبيب.

 

أوروبا تستفيد، ونحن نخسر.
 

الشعوب تتألم، والحكومات تدافع عن "زيادة التحويلات".
 

جيلٌ كامل يفقد الثقة، والدول تفقد نخبتها.

 

وما لم تتعامل الحكومات مع الأزمة باعتبارها قضية أمن قومي، فإن المستقبل سيشهد مزيدًا من الانهيار في قطاعات التعليم والصحة، ومزيدًا من الهجرة، ومزيدًا من الفراغ الذي لا أحد قادر على ملئه.