تمثل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ساحة مفتوحة للقادة والسياسيين حول العالم، حيث يجري تبادل الرؤى وبناء التفاهمات الدبلوماسية والاقتصادية. غير أن حضور سورية هذا العام حمل أبعادًا إضافية، إذ بدا الرئيس السوري أحمد الشرع معنيًا قبل أي شيء آخر بترسيخ شرعيته على المستوى الدولي، باعتبارها بوابة ضرورية لإعادة إدماج سورية في المجتمع الدولي، ومن ثم فتح الطريق أمام فرص التعافي الاقتصادي والأمني. لكن في الوقت الذي تُظهر فيه لقاءاته الخارجية مؤشرات قبول دولي متزايد، يبقى الداخل السوري غارقًا في أزمات سياسية واجتماعية تعكس فجوة واضحة بين خطاب الخارج وممارسات الداخل.

 

الشرع يبحث عن الشرعية الدولية

أبرز ما لفت الأنظار في مشاركة الشرع بالأمم المتحدة سلسلة اللقاءات الرفيعة التي عقدها مع قادة ومسؤولين، من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى الرئيس الفرنسي، وملك إسبانيا، ورئيسة وزراء إيطاليا. هذه اللقاءات، وفق منطق السياسة الدولية، تشكل اعترافًا أمميًا بسلطته، ورسالة واضحة بأن المجتمع الدولي يتجه للتعامل مع سورية بصفته الحاكم الشرعي. لكن هذا الاعتراف لم يكن مجانيًا؛ فقد ربط مراقبون تحولات الموقف الأميركي خصوصًا بتقديم تنازلات سورية في ملف حساس، هو العلاقة مع إسرائيل، تحت مسمى اتفاق "خفض التصعيد"، الذي يبدو أنه يتجاوز الترتيبات الأمنية إلى تفاهمات سياسية أعمق لم تُكشف تفاصيلها بعد.

 

دلالات التفاهم مع الولايات المتحدة

تصريحات ترامب ومبعوثه توم براك تعكس أن واشنطن بصدد إعادة صياغة سياستها تجاه سورية. فبينما لمح ترامب إلى إعلان مهم يخص العقوبات الاقتصادية، أوضح براك أن الفدرالية ليست خيارًا مطروحًا لمستقبل البلاد، في إشارة موجهة إلى "قوات سورية الديمقراطية" ومطالبات الزعيم الدرزي حكمت الهجري. هذا يعني أن الإدارة الأميركية ترى في دعم الشرع فرصة لتوحيد سورية تحت سلطة مركزية، شريطة أن يستمر في النهج البراغماتي القائم على الانفتاح الخارجي، حتى ولو كان الثمن تنازلات صعبة في ملفات إقليمية حساسة.

 

القبول الأوروبي.. بين الرغبة في الاستقرار والحسابات السياسية

لم تقتصر ردود الفعل الإيجابية على الجانب الأميركي؛ فقد أبدى مسؤولون أوروبيون استعدادهم لدعم "الحكم الجديد" في سورية، بدعوى أن استقرارها مصلحة مشتركة. أوروبا، التي تخشى موجات هجرة جديدة وتنامي الفوضى الإقليمية، تبدو أكثر ميلًا لغض الطرف عن طبيعة السلطة الجديدة مقابل وعود الاستقرار الأمني والاقتصادي. ومع ذلك، يبقى هذا القبول مرهونًا بتقديم سورية المزيد من الضمانات، لا سيما فيما يتعلق بتقييد نفوذ القوى الإسلامية المتشددة، وإبقاء العلاقة مع إسرائيل ضمن مسارات "التفاهم الأمني".

 

الشرع بين براغماتية الخارج وتحديات الداخل

إذا كانت لغة الشرع في الأمم المتحدة اتسمت بالهدوء والبراغماتية، فإن الداخل السوري يظهر صورة مختلفة. فالخطاب المهادن الموجه للخارج لم يجد صدى مماثلًا داخل البلاد، حيث يواجه النظام الجديد تحديات كبيرة: من أحداث السويداء، إلى اضطرابات الساحل، وصولًا إلى حالة الاحتقان الاجتماعي نتيجة غياب مسارات تشاركية سياسية حقيقية. ما زالت القرارات المتعلقة بالدستور والبرلمان وتشكيل الحكومة تُدار بذات العقلية الأحادية التي اعتادها السوريون لعقود، وهو ما يعمق شعور شرائح واسعة بأن التغيير في بنيته السياسية لم يلامس جوهر الحكم.

 

التحدي الأكبر: بناء الداخل قبل الخارج

يرى مراقبون أن اعتراف الخارج، مهما بلغت أهميته، لن يكفي لتأمين مستقبل مستقر لسورية ما لم يُترجم إلى إصلاحات داخلية جادة. فالمشكلة لا تكمن في قبول ترامب أو قادة أوروبا بالشرع رئيسًا لسورية، بل في عجز السلطة عن بناء عقد اجتماعي جديد يضمن المواطنة والمشاركة السياسية والعدالة. دون ذلك، ستبقى الملفات الشائكة مثل وضع "قوات سورية الديمقراطية"، ومطالب الدروز، والتوترات الطائفية والاجتماعية، قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، حتى لو بدا الخارج راضيًا ومطمئنًا.

واخيرا فقد يكون حضور أحمد الشرع في الأمم المتحدة محطة مفصلية أعادت لسورية موقعها على الطاولة الدولية، ورسخت اعترافًا بشرعيته كرئيس. لكن هذا المكسب الدبلوماسي يظل هشًا إذا لم يقترن بتحولات داخلية تضع البلاد على سكة الديمقراطية والتشاركية الحقيقية. فالمعادلة التي تبدو ناجحة في الخارج، ما تزال تفتقد أسسها الصلبة في الداخل، وهو ما يجعل مستقبل سورية مرهونًا بقدرتها على سد الفجوة بين خطابها الدولي وممارساتها المحلية. وفي النهاية، فإن شرعية الخارج وحدها لا تكفي إذا ظل الداخل بلا إصلاح.