أصدر البنك الدولي تقريرًا حديثًا بعنوان "تبني التغيير وتشكيله التنمية البشرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، حذّر فيه من تداعيات خطيرة قد تواجه مصر خلال العقود الثلاثة المقبلة نتيجة السياسات الحكومية التي تدفع نحو تقليص معدلات الإنجاب. واعتبر التقرير أن هذا التوجه، إلى جانب التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، قد يضع مصر على أعتاب أزمة ديموغرافية شبيهة بما تمر به دول أوروبا الغربية، لكن دون امتلاك بنيتها التحتية أو أنظمتها المتطورة للرعاية الاجتماعية والصحية.
البنك الدولي: أزمة شيخوخة تلوح في الأفق
توقع التقرير أن تتضاعف نسبة إعالة كبار السن في مصر بحلول عام 2050، أي أن شريحة العاملين بين 15 و64 عامًا ستتحمل عبئًا أكبر بكثير في إعالة من تجاوزوا 65 عامًا. كما أشار إلى أن زيادة متوسط الأعمار ستضاعف الضغوط على أنظمة الصحة والمعاشات، وهو ما يتطلب قوة عاملة أوسع وأكثر تدريبًا في قطاع الرعاية. هذه الصورة القاتمة تتعارض مع محاولات الحكومة تصوير خفض معدلات الإنجاب كحل لمشكلات التنمية.
انخفاض الخصوبة يفتح الباب للأزمات
شهدت مصر خلال العقد الأخير تراجعًا متسارعًا في معدلات الخصوبة. فبعد أن بلغ معدل الإنجاب 6.7 طفل لكل امرأة عام 1952، انخفض تدريجيًا حتى وصل إلى 3.1 عام 2000، ثم ارتفع بشكل مفاجئ عام 2014 إلى 3.5، ليعود بعدها للهبوط حتى وصل إلى 2.41 طفل لكل امرأة عام 2024. هذا التراجع، الذي يصفه التقرير بأنه مقلق، يعني أن مصر قد لا تملك مستقبلاً قاعدة شبابية واسعة تدعم سوق العمل وتوازن أعباء كبار السن.
السيسي والزيادة السكانية: شماعة جاهزة
منذ توليه الحكم، اعتاد السيسي تحميل الزيادة السكانية مسؤولية فشل التنمية وتآكل الإنجازات الاقتصادية. لكن الواقع، بحسب خبراء، يكشف أن الأزمة أعمق بكثير وتتعلق بسوء الإدارة والسياسات الاقتصادية القاسية التي أرهقت الطبقات الوسطى والفقيرة. الدعوات الرسمية لتقليص معدلات الإنجاب لم تأتِ مصحوبة بتحسين الخدمات الصحية أو إصلاح منظومة التعليم، ما جعلها مجرد خطاب دعائي يحمّل المواطنين المسؤولية بدلًا من معالجة جوهر الأزمة.
الاقتصاد والأوضاع الاجتماعية تسرّع التراجع
لم يكن تراجع معدلات الخصوبة نتيجة السياسات الرسمية فقط، بل لعبت الظروف الاقتصادية والاجتماعية دورًا بارزًا. فارتفاع تكاليف المعيشة أدى إلى عزوف شريحة من الشباب عن الزواج، وزيادة نسب الطلاق، وتأخر سن الزواج لدى الرجال والنساء على حد سواء. هذه التغيرات الاجتماعية أثرت بشكل مباشر على معدلات المواليد، ما زاد من المخاوف من فجوة ديموغرافية مستقبلية.
غياب رؤية استراتيجية متكاملة
يرى محللون أن أخطر ما تواجهه مصر ليس انخفاض الخصوبة بحد ذاته، بل غياب رؤية متكاملة لإدارة هذا التحول الديموغرافي. فالدول الأوروبية التي تعاني من شيخوخة السكان تملك أنظمة رعاية اجتماعية متطورة، واقتصادات قادرة على استيعاب الضغوط. أما في الحالة المصرية، فإن هشاشة البنية الصحية، وغياب نظم تقاعد عادلة، وتفاقم البطالة، يجعل من احتمالات مواجهة شيخوخة سريعة كارثة محتملة على جميع المستويات.
واخيرا فان تحذير البنك الدولي يضع النظام المصري أمام مسؤولية جسيمة، لكنه في الوقت ذاته يكشف عمق الأزمة التي تواجه البلاد. فبينما يواصل السيسي خطاب تحميل المواطنين عبء "الزيادة السكانية"، تتراجع بالفعل معدلات الإنجاب بشكل مقلق، ما يفتح الباب أمام سيناريو شيخوخة مبكرة تفتقر مصر لأدوات إدارتها. وإذا استمرت الحكومة في غيابها عن التخطيط الجاد، فإن العقود المقبلة قد تشهد واحدة من أخطر الأزمات الديموغرافية في تاريخ مصر الحديث، حيث يثقل كبار السن كاهل اقتصاد هش ومجتمع يفتقر إلى شبابه.