أثار قرار عبد الفتاح السيسي رفض قانون الإجراءات الجنائية الذي أقره البرلمان أخيراً عاصفة سياسية وإعلامية غير متوقعة، إذ سرعان ما انقلب إعلاميون ونواب ومسؤولون كانوا قد أشادوا بالقانون من قبل، واعتبروه إنجازاً تشريعياً طال انتظاره.

المفارقة تكمن في أن هؤلاء أنفسهم، وفي مقدمتهم الإعلامي أحمد موسى، وأمين عام مجلس النواب السابق محمود فوزي، وغيرهم من الوجوه البارزة الموالية للنظام، باتوا اليوم يهاجمون القانون ويصفونه بأنه «معيب» و«غير صالح»، وكأنهم لم يقودوا حملة التطبيل نفسها قبل أسابيع قليلة.
 

خلفية القرار
القانون الذي أثار الجدل كان يهدف إلى تحديث منظومة العدالة الجنائية في مصر، وتبسيط إجراءات التقاضي عبر وضع سقف زمني محدد للفصل في القضايا.
وقد أقرّه البرلمان بعد نقاشات واسعة، وسط تأكيدات من أعضائه أن التشريع يعكس رؤية الدولة في تطوير العدالة وتعزيز ثقة المواطنين.

لكن المفاجأة وقعت حين رفض السيسي التصديق على القانون، بحجة أنه يتضمن «ثغرات خطيرة» قد تعيق تحقيق العدالة أو تسمح بالإفلات من العقاب.
 

التناقض الإعلامي الفج
المشهد الأبرز تمثل في الإعلاميين الموالين الذين اعتادوا ترديد خطاب السلطة حرفياً.

أحمد موسى، الذي سبق أن هلّل للقانون واعتبره «قفزة تاريخية» نحو إصلاح القضاء، عاد بعد رفض الرئيس ليصفه بأنه «خطر على أمن البلاد» وأن البرلمان «تسرع في تمريره».
هذا الانقلاب السريع في الموقف كشف هشاشة الخطاب الإعلامي الذي لا ينطلق من تحليل موضوعي، وإنما من الاصطفاف الأعمى وراء توجيهات السلطة.

الأمر ذاته انسحب على محمود فوزي، الأمين العام السابق لمجلس النواب والمستشار البرلماني الحالي، الذي كان من أشد المدافعين عن النصوص الجديدة، مؤكداً أنها متوافقة مع المعايير الدولية، قبل أن يعود ليبرر رفض القانون على أنه «حكمة من الرئيس» و«رؤية لا يملكها غيره».
 

أزمة مؤسسات أم أزمة ولاء؟
هذا التناقض لا يمكن عزله عن طبيعة النظام السياسي الحالي، حيث لا يُسمح للمؤسسات المختلفة – بما فيها البرلمان والإعلام – بممارسة استقلال حقيقي.
فالبرلمان الذي مرر القانون بأغلبية كاسحة، لم يجد غضاضة في التراجع التام عن موقفه بمجرد رفض الرئيس، وكأن وظيفته الوحيدة هي تمرير ما يُطلب منه ثم الانسحاب عند أول إشارة.

أما الإعلاميون، فهم مجرد أذرع دعائية تعكس الموقف الرسمي دون اعتبار لمصداقية أو ثبات مهني.
 

دلالات سياسية
رفض القانون يكشف أولاً عن مركزية القرار في يد السيسي، بحيث لا يملك البرلمان ولا الإعلام سلطة حقيقية، وإنما يتحركون في فلك واحد.
كما يطرح أسئلة جدية حول جدوى المؤسسات الدستورية التي يُفترض أنها تمثل الشعب وتشرّع باسمه.

والأخطر من ذلك أن ما جرى يفضح آلية صناعة الرأي العام في مصر، حيث تُدار المواقف بتوجيهات فوقية، فيتحول الإعلام إلى أداة لتبرير القرارات وليس لمناقشتها.
 

انعكاسات على صورة النظام
بالنسبة للمواطن المصري، فإن ما حدث يعزز شعوراً متنامياً بانعدام الثقة في المؤسسات.

فإذا كان البرلمان يصفق للقانون ثم يهاجمه بعد يومين، وإذا كان الإعلاميون يطبّلون له ثم ينقلبون عليه، فما قيمة النقاشات والبرامج واللجان إذا كانت النتيجة محسومة بقرار فردي من رأس السلطة؟
هذه الصورة تضعف شرعية المؤسسات وتُظهر أن كل ما يجري مجرد مسرحية سياسية.

الخلاصة أن قرار السيسي رفض قانون الإجراءات الجنائية لم يفتح فقط نقاشاً قانونياً حول جدوى التشريع، بل كشف عمق أزمة النظام السياسي والإعلامي في مصر.
فالبرلمان الذي يفترض أن يمارس دوراً رقابياً وتشريعياً تحول إلى تابع، والإعلام الذي يفترض أن يراقب ويحلل أصبح مجرد مكبر صوت لتعليمات السلطة.

وبينما كان من الممكن أن يشكل القانون خطوة نحو إصلاح منظومة العدالة، فإن الطريقة التي أُدير بها الملف جعلت من القضية مثالاً صارخاً على غياب الاستقلالية، وعلى هشاشة الخطاب الإعلامي والسياسي في مواجهة الحقيقة.

وفي النهاية، فإن الانقلاب السريع في المواقف أضر بصورة النظام أكثر مما أفادها، إذ أظهر للجميع أن الكلمة الأخيرة في مصر لا تزال لرجل واحد، وأن كل ما عداه ليس إلا ديكوراً.