في أحد بيوت قرية صغيرة بمحافظة الدقهلية عام 1928 وُلد طفل سُمِّي محمد مهدي عثمان عاكف. لم يكن أحد يتخيّل أن هذا الطفل القادم من أسرة ريفية متوسطة سيصبح بعد عقود شخصية مثيرة للجدل، وقائدًا لجماعة الإخوان المسلمين في أخطر لحظاتها، ورمزًا للصمود في وجه السجون والمحن حتى لُقِّب بـ"سجين كل العصور".

 

البدايات والتكوين

نشأ عاكف في بيت بسيط تحكمه القيم الدينية. أكمل تعليمه الابتدائي في المنصورة، ثم انتقل إلى القاهرة حيث التحق بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، ليجد نفسه قريبًا من جماعة الإخوان المسلمين التي أسّسها الإمام حسن البنا. تأثر عاكف بشدة بأفكار البنا ورجال الدعوة، فكان منذ شبابه المبكر عنصرًا فاعلًا في الأنشطة الدعوية والطلابية.

في عام 1950 تخرج في المعهد العالي للتربية الرياضية، فجمع بين اللياقة البدنية والروح التنظيمية، وهو ما جعله يتدرج سريعًا داخل صفوف الإخوان، حتى تولى رئاسة قسم التربية الرياضية في المركز العام للجماعة.

 

الانخراط في الدعوة والسياسة

ارتبط عاكف منذ شبابه بالقضايا الكبرى في مصر، خصوصًا مقاومة الاحتلال الإنجليزي. شارك في تنظيم معسكرات طلابية تهدف إلى تربية جيل ملتزم بالقيم الإسلامية وقادر على المشاركة في النضال الوطني. وفي الخمسينيات بدأ انخراطه السياسي المباشر من خلال الإخوان، إلى جانب دراسته بكلية الحقوق التي لم يكملها لانشغاله بالعمل التنظيمي والدعوي.

https://www.facebook.com/watch/?v=1471225329927160

كان لعاكف حضور بارز في الوسط الطلابي والرياضي، إذ عرف عنه قدرته على كسب الشباب وحشدهم في معسكرات ودورات وأنشطة جامعة عين شمس. هذا النشاط جعله هدفًا للسلطات المصرية التي سرعان ما اصطدمت بالإخوان بعد ثورة يوليو 1952.

https://youtu.be/aZMzXM76dPo

 

محطات من السجن والابتلاء

عام 1954 كان نقطة فاصلة في حياة عاكف. بعد أزمة الحكم على الإخوان وإعلان حل الجماعة، اعتُقل الشاب الثلاثيني وحوكم بتهم شملت تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف. حُكم عليه بالإعدام، لكن الحكم خُفف إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. قضى في السجون ما يقرب من عشرين عامًا حتى أُفرج عنه عام 1974 في عهد الرئيس أنور السادات.

لم تكن تلك المرة الأخيرة. ففي منتصف التسعينيات، وتحديدًا عام 1996، أُعيد اعتقاله في قضية "سلسبيل" مع عدد من قيادات الجماعة، وصدر عليه حكم بالسجن ثلاث سنوات. وبعد خروجه عام 1999، استأنف نشاطه التنظيمي والدعوي بلا كلل.

https://youtu.be/Bg5TVUod5qk

لهذا لُقّب بـ"سجين كل العصور"، إذ ذاق السجن في عهد جمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، ثم بعد الانقلاب العسكري في 2013 حيث ظل معتقلًا حتى وفاته.

 

المهام الدولية والإنجازات

إلى جانب نشاطه الداخلي، تولى عاكف مسؤوليات خارج مصر. أدار المركز الإسلامي في مدينة ميونخ بألمانيا، وكان له دور في نشر الفكر الإسلامي الوسطي بين الجاليات. كما عمل مستشارًا للندوة العالمية للشباب الإسلامي، ونظم عشرات المخيمات الشبابية في آسيا وأوروبا وأفريقيا، مما جعله شخصية معروفة عالميًا في أوساط العمل الإسلامي.

في عام 1987 انتُخب عضوًا بمجلس الشعب المصري عن دائرة شرق القاهرة ضمن "التحالف الإسلامي"، ليثبت حضور الإخوان السياسي في البرلمان لأول مرة منذ عقود. وبعدها أصبح عضوًا في مكتب الإرشاد، وهو أعلى هيئة قيادية في الجماعة.

 

المرشد السابع

عقب وفاة مأمون الهضيبي عام 2004، اجتمع مجلس شورى الجماعة ليختار محمد مهدي عاكف مرشدًا عامًا سابعًا للإخوان. كان الاختيار مفاجئًا للبعض، لكن خبرته الطويلة وسمعته التنظيمية جعلته الأنسب لقيادة الجماعة في مرحلة حساسة.

ما ميّزه عن غيره من المرشدين أنه أول من تنازل عن المنصب طواعية بعد انتهاء مدته عام 2010، تاركًا مكانه لخلفه محمد بديع. اعتبر كثيرون هذه الخطوة علامة على التجديد داخل الجماعة، ودليلًا على إدراكه لطبيعة المرحلة وحاجتها إلى دماء جديدة.

https://www.facebook.com/watch/?v=4057912391193450

 

الصمود في وجه العاصفة

مع ثورة يناير 2011 وما تبعها من أحداث، عاد اسم عاكف إلى الساحة باعتباره رمزًا تاريخيًا للجماعة. لكنه ظل بعيدًا عن الأضواء مقارنة بالقيادات الجديدة. وبعد أحداث 2013 والانقلاب العسكري، اعتُقل مجددًا وهو في الخامسة والثمانين من عمره. ورغم تقدمه في السن وتدهور صحته، ظل ثابتًا رافضًا أي مساومة مقابل الإفراج.

تدهورت حالته الصحية في السجن، حيث عانى من السرطان ومضاعفات الشيخوخة. ورغم المناشدات الحقوقية، لم يُفرج عنه. وفي 22 سبتمبر 2017 لفظ أنفاسه الأخيرة في مستشفى قصر العيني وهو أسير، ليبقى موته شاهدًا على قسوة المرحلة.

https://youtu.be/qPAn2jq5ng8

 

إرثه ورؤيته

يصفه المقربون بأنه رجل شديد الانضباط، صارم مع نفسه ومع إخوانه، لكنه في الوقت نفسه حريص على الشباب وعلى تربية الأجيال. امتاز بقدرته على المزج بين العمل الدعوي والرياضي والسياسي، وظل مقتنعًا بأن التغيير الحقيقي يبدأ بتربية الفرد.

ترك مهدي عاكف إرثًا متناقضًا: فبالنسبة لأتباعه هو قائد صلب ورمز للصمود والتجديد، أما بالنسبة لخصومه فكان تجسيدًا لاستمرار نفوذ الإخوان داخل المشهد المصري. لكن لا خلاف على أنه واحد من أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ الجماعة، ورمزًا لصبرٍ قلّ نظيره.

https://youtu.be/pZEZDsIjXGA

ورحل مهدي عاكف بعد تسعين عامًا من حياة صاخبة، تنقلت بين السجون والمنافي والمنابر والبرلمان والمناصب القيادية. كانت حياته مرآة لتاريخ الإخوان المسلمين في مصر: لحظات قوة وصعود، وأوقات محن وابتلاء. وبين الولادة في قرية ريفية والوفاة أسيرًا في مستشفى، رسم عاكف صورة الرجل الذي لم يبدّل ولم يتراجع، حتى لُقّب بحق بـ"سجين كل العصور".
https://youtu.be/xYYEoAxh1LY