أطلق نائب رئيس الوزراء الأسبق زياد بهاء الدين تصريحًا لافتًا مؤخرًا حين قال: "لا يقلقني غياب صندوق النقد الدولي، ولكن ما سوف يقلقني بالتأكيد إن لم يكن لدينا برنامج، والوقت حان لوضع البرنامج التالي لغياب الصندوق". هذه الكلمات تعكس إدراكًا عميقًا بأن المشكلة في مصر ليست في وجود أو غياب الصندوق وحده، بل في غياب الرؤية الوطنية التي تُلبي احتياجات الاقتصاد والمجتمع بعيدًا عن الإملاءات الخارجية.
علاقة مصر مع صندوق النقد الدولي
منذ عام 2016، دخلت مصر في علاقة متشابكة مع صندوق النقد الدولي، بدأت مع اتفاقية القرض البالغة قيمتها 12 مليار دولار، والتي جاءت مشروطة بحزمة قاسية من الإصلاحات الاقتصادية. شملت هذه الشروط تحرير سعر الصرف أو ما عُرف بـ"تعويم الجنيه"، ورفع الدعم عن الوقود والكهرباء تدريجيًا، وتوسيع قاعدة الضرائب. هذه الإجراءات، رغم أنها ساهمت في تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي كزيادة الاحتياطي النقدي واستقرار ميزان المدفوعات، إلا أنها خلّفت آثارًا اجتماعية باهظة، أبرزها ارتفاع معدلات التضخم وتراجع القوة الشرائية للمواطنين.
تكرّر السيناريو ذاته مع القرض الجديد الموقع عام 2022 بقيمة 3 مليارات دولار، والذي ارتبط بمراجعات دورية مستمرة، أفضت إلى ضغوط إضافية على الدولة لخفض الجنيه ورفع أسعار الخدمات العامة. كل ذلك عزز شعورًا شعبيًا بأن الصندوق لم يعد مجرد "شريك مالي"، بل أصبح بمثابة "وصي اقتصادي" يفرض سياسات على حساب الفئات الأكثر هشاشة.
رؤية زياد بهاء الدين
ما يحاول زياد بهاء الدين التأكيد عليه هو أن مصر لا يمكنها أن تبني استقرارها الاقتصادي على وجود الصندوق فقط. فهو يطرح سؤالًا جوهريًا: ماذا لو غاب الصندوق؟ الإجابة بالنسبة له واضحة: القلق لا يأتي من غيابه بل من غياب البرنامج الوطني البديل. فالاعتماد المستمر على القروض المشروطة يضع الاقتصاد في حلقة مفرغة من الديون والالتزامات، بينما المطلوب هو رؤية متكاملة تعالج جذور الأزمات مثل ضعف الإنتاجية، وتراجع الصادرات، واعتماد البلاد المفرط على الاستيراد.
مخاطر برامج الصندوق على الاقتصاد والمجتمع
الخبير الاقتصادي هاني توفيق يرى أن برامج الصندوق رغم ما تحمله من انضباط مالي، فإنها تضرب في العمق قدرة الطبقة الوسطى على الصمود. فالتركيز على خفض العجز عبر تقليص الدعم وزيادة الضرائب يأتي دائمًا على حساب العدالة الاجتماعية. ويضيف أن الصندوق يتعامل مع الاقتصاد بمنطق الحسابات الرقمية، بينما يهمل الواقع السياسي والاجتماعي، ما يؤدي إلى اتساع فجوة الفقر وتآكل شبكات الحماية الاجتماعية.
بدوره يشير الباحث الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب إلى أن الاعتماد المفرط على القروض يعرض البلاد لمخاطر متزايدة في حال تغير الظروف الدولية، مثل ارتفاع أسعار الفائدة أو تقلب أسعار السلع الأساسية. ويؤكد أن مصر بحاجة إلى إصلاحات هيكلية تقوم على تشجيع الاستثمار الإنتاجي، لا مجرد جذب الأموال الساخنة أو الودائع الخليجية التي تُنفق سريعًا دون أثر دائم.
الحاجة إلى برنامج وطني بديل
ما دعا إليه زياد بهاء الدين هو وضع برنامج وطني بديل يركز على بناء قاعدة إنتاجية قوية. هذا البرنامج، بحسب محللين، يجب أن يتضمن خطوات واضحة: دعم الزراعة والصناعة المحلية لتقليل فاتورة الواردات، إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة لتقليل الهدر، وتبني سياسات ضريبية عادلة تضمن مساهمة حقيقية من كبار الممولين بدلًا من تحميل الفقراء عبء الإصلاح.
كما يشدد الخبير الاقتصادي هاني عادل على أن الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا والطاقة المتجددة هو السبيل الوحيد لتحقيق نمو مستدام، بعيدًا عن الحلول المؤقتة التي تفرضها اتفاقيات القروض. ويرى أن أي برنامج جاد يجب أن يوازن بين متطلبات الانضباط المالي وضرورات العدالة الاجتماعية، حتى لا يفقد الاقتصاد تماسكه على المدى الطويل.
غياب الصندوق ليس نهاية العالم
العديد من الدول خاضت تجارب مع الصندوق وخرجت منها بخسائر اجتماعية فادحة، ما دفعها لاحقًا إلى البحث عن بدائل داخلية. وفي الحالة المصرية، يرى مراقبون أن الفرصة ما زالت قائمة لتبني رؤية مستقلة، خاصة في ظل ما تملكه البلاد من مقومات استراتيجية: موقع جغرافي فريد، وسوق محلية ضخمة، وموارد طبيعية متنوعة.