في قلب قرية البقلية التابعة لمدينة محلة دمنة بمحافظة القليوبية، يتكرر مشهد بات مألوفًا في معظم القرى والمدن المصرية: سطوة البلطجة وغياب الأمن الحقيقي.
هنا، لا يسود القانون بقدر ما تسود قوة العصا والسلاح الأبيض، في مشهد يُلخّص حال دولة تركت فراغًا في الشارع ليملؤه أصحاب النفوذ غير المشروع.
بلطجة في وضح النهار
الأهالي في قرية البقلية يتحدثون عن شباب يحملون السيوف والمطاوي، يتجولون على الدراجات النارية بلا أرقام، يفرضون الإتاوات على المحال التجارية، ويتدخلون في نزاعات الأهالي بدور "القاضي" الذي يحكم بقوة الذراع لا بنص القانون.
ويقول أحد السكان: "نعيش يوميًا في خوف، لا نعرف متى نصبح طرفًا في معركة لا علاقة لنا بها".
المشهد لم يعد مقتصرًا على البقلية وحدها، بل صار مشهدًا عامًا في مدن وقرى مصرية عدة، حيث غابت يد الدولة عن فرض الأمن الحقيقي، وانشغلت الأجهزة الأمنية بملاحقة المعارضين والنشطاء بدلاً من ملاحقة عصابات السلاح والبلطجة.
الدولة الغائبة والفراغ الخطير
غياب دور الشرطة في مواجهة هؤلاء البلطجية يفتح الباب أمام انتشار منطق القوة العارية.
حين يختلف جاران على قطعة أرض أو خلاف عائلي، لا تُحل المسائل في أقسام الشرطة، بل عبر استدعاء "الفتوات".
بذلك تتحول القرى إلى ساحات استعراض سيوف وسكاكين، وتُستباح حياة البسطاء.
هذا الوضع يخلق حالة من الإحباط والخوف الجماعي.
فالأهالي يدركون أن اللجوء للشرطة يعني غالبًا المزيد من التعقيد أو حتى انحياز الضباط إلى الطرف الأقوى نفوذًا، بينما يظل المواطن البسيط بلا سند.
ثقافة الخوف والتطبيع مع العنف
الأخطر من البلطجة نفسها هو تطبيع المجتمع مع وجودها.
الأطفال الذين يشاهدون استعراض القوة في الشوارع يكبرون وهم مقتنعون أن السلاح والسطوة أقصر طريق لحل المشكلات.
وهكذا، تُزرع بذور الجريمة في الأجيال الجديدة، ويعاد إنتاج دوامة العنف جيلاً بعد جيل.
في البقلية مثلاً، يروي الأهالي عن معارك تستخدم فيها الأسلحة البيضاء أمام المدارس، وعن نساء يصرخن لحماية أطفالهن من زجاج متطاير أو طلقات خرطوش عشوائية.
ومع مرور الوقت، لم يعد أحد يستغرب. صارت "الخناقة" جزءًا من الحياة اليومية.
اقتصاد البلطجة
لا يقتصر نفوذ البلطجية على فرض السيطرة الأمنية فقط، بل يمتد إلى الجانب الاقتصادي.
في كثير من القرى، ومن بينها البقلية، تُفرض إتاوات شهرية على المحلات، وتُفرض رسوم غير رسمية على سيارات النقل والمشروعات الصغيرة.
في غياب رقابة الدولة، أصبح للبلطجة سوق سوداء يدر أرباحًا، ويمنح لأصحابها مكانة اجتماعية زائفة.
بعضهم أصبح "رجل خدمات" يحل النزاعات ويقدّم المال للفقراء لكسب الولاء، بينما يواصل ابتزاز الجميع.
الوجه الآخر للسيطرة الأمنية
من المفارقات الصادمة أن الداخلية المصرية تُفاخر دومًا بسيطرتها الأمنية وقدرتها على "كسر شوكة الإرهاب"، لكنها عاجزة – أو متغافلة – عن مواجهة البلطجة اليومية التي تفتك بالمجتمع.
الحقيقة أن الأمن مسيّس: يوجَّه لقمع الأصوات المعارضة بدلاً من حماية الناس من الخطر المباشر في شوارعهم.
وفي القليوبية، كما في المنوفية والدقهلية وسوهاج، لم يعد غريبًا أن يتدخل بعض الضباط أنفسهم لصالح "الفتوات"، سواء بالعلاقات أو بالمصالح المتبادلة، فيتضاعف الإحساس بانعدام العدالة.
البلطجة كظاهرة متوطنة
قرية البقلية مجرد صورة مصغرة من واقع أكبر. في كل مدينة مصرية تقريبًا هناك "جواد" و"فتوات" و"عائلات سلاح" تفرض سيطرتها.
هذه الظاهرة ليست عَرَضية، بل هي نتاج فشل الدولة في فرض سيادة القانون، ونتاج منظومة فساد جعلت المواطن البسيط عاريًا أمام تجار العنف.
الخلاصة: بلد بلا قانون
انتشار البلطجة في البقلية وفي غيرها من قرى ومدن مصر هو دليل حي على انهيار العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن.
حين تُترك القرى فريسة لسطوة السلاح الأبيض، فهذا يعني أن القانون لم يعد مرجعًا، وأن المواطن لم يعد يجد في الدولة ملاذًا.
إن مواجهة البلطجة ليست مجرد حملات أمنية موسمية تستعرض فيها الشرطة قواها، بل هي مسألة إعادة بناء الثقة بين المجتمع والدولة، وفرض سيادة القانون على الجميع دون استثناء.
إلى أن يحدث ذلك، ستبقى الجقلية – ومعها مصر كلها – أسيرة شريعة الغاب، حيث يحكم الأقوى، ويظل الضعفاء بلا حماية.