لم يكن أحد من سكان الإسكندرية يتخيل أن مشروع توسعة طريق أبو قير سيُترجم عملياً إلى إزالة عشرات الأشجار التي يتجاوز عمر بعضها نصف قرن.
السلطات قررت إقامة كوبري جديد لتوسيع الطريق، رغم أن هذا التوسيع لم يكن مطلباً شعبياً مُلحاً، بل كان الأهالي يطالبون بتحسين المرافق العامة والنقل الجماعي كالأتوبيسات أو القطارات الخفيفة.

الأكثر إثارة للجدل أن مجموعة من المهندسين والمعماريين قدموا بدائل هندسية تتيح استيعاب حركة المرور دون المساس بالأشجار، لكن تلك المقترحات وُضعت جانباً بلا نقاش أو حوار مجتمعي.
ما يحدث ليس مجرد مشروع طرق، بل عملية اقتلاع لجزء من الذاكرة البيئية والاجتماعية للمدينة، وكأن الهدف غير المعلن أن تتحول مصر إلى مسطحات من الخرسانة والإسفلت بلا أي غطاء أخضر.
 

خسارة بيئية فادحة
الأشجار المعمرة التي تقتلع اليوم لم تكن مجرد منظر جمالي، بل جزء أساسي من النظام البيئي الحضري الذي يحمي سكان الإسكندرية من التلوث وارتفاع درجات الحرارة.

شجرة عمرها خمسون عاماً توفر ظلاً، وتخفض من حرارة الشارع، وتنتج أكسجيناً يكفي لعشرات الأفراد يومياً.
عندما تُزال هذه الأشجار، تخسر المدينة ما لا يمكن تعويضه في المدى القريب، لأن زرع شجرة جديدة يحتاج لعقود طويلة حتى تصل لنفس الفاعلية البيئية.

في ظل تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة في مصر، يصبح الحفاظ على الغطاء الأخضر ضرورة لا ترفاً.

الدكتور مصطفى حسين كامل، وزير البيئة الأسبق، وصف مثل هذه القرارات بأنها "جريمة بيئية مكتملة الأركان، لأنها تفقد المجتمع رأس مال طبيعياً لا يمكن استعادته سريعاً، وتزيد من معاناة الناس مع التلوث والتغير المناخي".
الرسالة التي تصل للمواطن أن البيئة لا مكان لها في حسابات الحكومة، وأن التنمية تُختزل في الخرسانة فقط.
 

تخطيط بلا مشاركة
من أبرز الإشكاليات أن مشروع توسعة طريق أبو قير صُمم ونُفذ دون أي حوار مع الأهالي أو خبراء التخطيط العمراني المستقلين.

في دول كثيرة، لا يمكن البدء في مشروع مشابه دون عقد جلسات استماع عامة ومراجعة مقترحات البدائل.
هنا، على العكس، تم تجاهل حتى المقترحات الرسمية التي قدمها مهندسون بارزون.

هؤلاء اقترحوا حلولاً أقل كلفة وأكثر حفاظاً على البيئة، مثل تطوير النقل الجماعي أو تحسين كفاءة الطريق القائم بدلاً من اقتلاع الأشجار.
لكن الحكومة مضت في مشروعها كأن الهدف إنجاز بصري سريع وليس خدمة حقيقية للمجتمع.

المعماري طارق والي، الخبير في تخطيط المدن، يؤكد أن "المشروعات العمرانية التي تُفرض من أعلى دون مشاركة مجتمعية تفشل غالباً في تلبية الاحتياجات الحقيقية للناس، لأنها تعكس رؤية بيروقراطية ضيقة لا ترى إلا الخرسانة".

هذا النهج يكرس لسياسة مركزية لا تعترف بحق المواطنين في المشاركة برسم مستقبل مدينتهم.
 

أضرار صحية مباشرة
لا يقتصر أثر إزالة الأشجار على المنظر العام، بل ينعكس مباشرة على صحة المواطنين.
الأشجار المعمرة تعمل كفلاتر طبيعية، تمتص الغازات الضارة وتقلل من الملوثات المحمولة في الهواء.

في مدينة مثل الإسكندرية، التي تعاني من اختناقات مرورية وتكدس سيارات، تصبح الأشجار وسيلة أساسية لتخفيف أثر التلوث.
ومع فقدانها، يزداد تركيز العوادم في الهواء، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات أمراض الجهاز التنفسي كالربو والحساسية.
إضافة إلى ذلك، يختفي الظل الذي يحمي المارة من ضربات الشمس، خاصة في موجات الحر المتكررة التي تضرب مصر سنوياً.

الدكتور أحمد حمدي، أستاذ الصحة العامة بجامعة الإسكندرية، يؤكد أن "قطع الأشجار في مناطق مكتظة بالسكان سيؤدي إلى زيادة الأمراض المرتبطة بالحرارة والتلوث، وسيضاعف الأعباء على القطاع الصحي، خصوصاً بين الفئات الأكثر هشاشة مثل الأطفال وكبار السن".

بمعنى آخر، ما يحدث ليس مجرد قرار عمراني بل تهديد مباشر للصحة العامة.
 

الخرسانة على حساب الحياة
حين تُقتلع أشجار عمرها نصف قرن لصالح كوبري لم يطالب به السكان، تصبح الرسالة واضحة: الخرسانة أهم من الحياة. ما يحدث في أبو قير ليس حالة فردية، بل جزء من توجه عام يرى أن "التطوير" يعني المزيد من الطرق والكباري، حتى لو جاء ذلك على حساب المساحات الخضراء.
هذا التوجه يعكس رؤية أحادية للتنمية تعتبر الطبيعة عائقاً لا قيمة له. في مدن كبرى حول العالم، الاتجاه السائد هو العكس: الحفاظ على كل شجرة قائمة ودمجها في التخطيط العمراني.

لكن في مصر، يبدو أن الهدف أن تُصبح المدن بلا أشجار ولا ظل. المهندس الاستشاري عمرو عزت سلامة، عضو المجلس الأعلى للتخطيط العمراني سابقاً، يصف هذه السياسات بأنها "اختزال خطير لمفهوم التنمية، لأنها تخلق مدناً قاسية وغير إنسانية، تفتقد للتوازن بين البنية التحتية والطبيعة".

في النهاية، المدينة التي تخلو من الأشجار تخلو من الحياة نفسها.