لم تعد وزارة الداخلية تكتفي بأدوارها الأمنية التقليدية، بل تحولت تدريجياً إلى لاعب اقتصادي ضخم ينافس التجار وأصحاب الأعمال في مجالات متعددة، أبرزها تجارة السلع الغذائية والمستلزمات المدرسية.

وفي الوقت الذي تعلن فيه الوزارة عن مبادرات "تخفيف الأعباء عن المواطنين" بطرح السلع بأسعار مخفضة تصل إلى 40%، يتجاهل الخطاب الرسمي الوجه الآخر لهذه المبادرات: البضائع التي تُباع في منافذ الداخلية هي نفسها التي جرى مصادرتها من مخازن ومحلات تجارية بحجج مختلفة، ثم يعاد ضخها في السوق بأسعار أقل من كلفة التاجر الأصلي.

هذه الممارسة تثير انتقادات واسعة، لأنها لا تقتصر على إلحاق الضرر بالتجار والقطاع الخاص، بل تُرسخ منطق الاقتصاد القائم على النفوذ الأمني بدلاً من التنافس الحر. وفيما يلي أبرز المحاور التي توضح خطورة هذا التوجه:
 

منافس غير عادل
توسعت الداخلية في السنوات الأخيرة عبر منافذها الثابتة والمتحركة التي تغطي معظم المحافظات.
هذه المنافذ لا تعمل كشركات تجارية عادية تخضع لقواعد العرض والطلب، بل تستفيد من امتيازات الدولة وسلطتها، مما يجعلها منافساً غير عادل أمام التاجر البسيط.

دخول الداخلية إلى السوق يربك التوازن الاقتصادي ويخلق حالة من الاحتكار المقنّع، حيث تصبح الدولة طرفاً خصماً وحكماً في الوقت نفسه.

د. محمد شادي، باحث الاقتصاد السياسي بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، يرى أن "تحول الداخلية إلى لاعب اقتصادي مباشر يضر بآليات السوق، لأنه يمنحها ميزة غير عادلة ويضعف قدرة التجار والمستثمرين على الاستمرار في بيئة تنافسية طبيعية".
 

آلية السيطرة والمصادرة
تعتمد الداخلية في تغذية منافذها على آلية مصادرة البضائع. تحت ذرائع مختلفة مثل "مخالفة الاشتراطات"، "احتكار السلع"، أو "تهريب البضائع"، يجري التحفظ على كميات ضخمة من المنتجات المخزنة.
لكن ما يُفترض أن يكون إجراءً تنظيمياً أو قانونياً، يتحول إلى وسيلة لإعادة توزيع هذه السلع عبر المنافذ الرسمية التابعة للوزارة.

النتيجة أن الوزارة تعيد بيع ما صادرته بأسعار تقل كثيراً عن السوق، ما يظهرها في صورة "المنقذ"، بينما يدفع التاجر ثمن خسائره وحده.

د. مصطفى بدرة، الخبير الاقتصادي، يؤكد أن "بيع البضائع المصادرة في منافذ حكومية يمثل تضارباً في الأدوار، حيث تستفيد الجهة المنفذة للقانون من صلاحياتها لتحقيق ربح مباشر بدلاً من الاكتفاء بدور الرقابة والتنظيم".
 

الأثر على التجار والاقتصاد المحلي
هذه الممارسات تترك آثاراً مدمرة على آلاف المحلات التجارية والمستوردين الصغار.
فكيف يمكن لتاجر أن ينافس وزارة تبيع سلعة صادرتها منه نفسها بنصف السعر تقريباً؟ النتيجة الطبيعية هي تآكل أرباح التجار، إغلاق المحلات، فقدان الوظائف، وانكماش أنشطة اقتصادية حيوية.

بدلاً من دعم الاقتصاد المحلي، تساهم هذه السياسات في ضرب السوق الداخلي، وتثبيط أي استثمار جديد يخشى من شبح المصادرة والتصفية.

د. بلال شعيب، الخبير الاقتصادي، يشير إلى أن "القطاع الخاص الصغير والمتوسط هو الأكثر تضرراً، لأنه لا يستطيع مواجهة منافذ مدعومة بالدولة وبسلطة تنفيذية، وهذا يؤدي إلى خسائر متراكمة وإفلاس متزايد بين التجار".

شعار "التخفيف عن المواطنين" قد يبدو وجيهاً من الخارج، لكنه يخفي خلفه استراتيجية توسع اقتصادي أمني. المواطن يحصل على سلعة أرخص، لكنه في المقابل يعيش في سوق موجهة تتحكم فيها أجهزة أمنية، وتغيب عنها قواعد الشفافية والمنافسة الحرة.

الأثر السياسي لذلك هو تعميق الاعتماد على مؤسسات الدولة لا كمُنظِّمة، بل كفاعل اقتصادي مهيمن، ما يفتح الباب لمزيد من السيطرة الأمنية على تفاصيل الحياة اليومية.

د. محمد فؤاد، خبير الاقتصاد وعضو لجنة الاقتصاد الكلي الاستشاري، يرى أن "التوسع الأمني في النشاط التجاري لا يمكن فصله عن بعد سياسي، فالمواطن يُستهدف بسلع رخيصة لتعزيز الولاء، بينما تُقمع أي محاولة لتأسيس سوق حر متوازن".
 

جودة وسلامة المنتجات
رغم إغراء التخفيضات الكبيرة، يظل هناك تساؤل مشروع حول جودة وسلامة المنتجات التي تُطرح في منافذ الداخلية.
فالبضائع المصادرة لم تمر غالباً بمسارات فحص مستقلة أو تأكيد لمطابقتها للمواصفات، وبعضها قد يكون منتهي الصلاحية أو مخزناً بطرق غير صحية.

ومع غياب رقابة حقيقية مستقلة، يبقى المستهلك عرضة لمخاطر صحية، بينما يُقدَّم الأمر إعلامياً وكأنه "خدمة للمواطن".

د. منصور هشام، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس، يحذر من أن "طرح بضائع مصادرة دون رقابة كافية على الجودة والسلامة قد يفتح الباب لمخاطر صحية على المستهلك، خاصة في قطاعات مثل الغذاء والمستلزمات المدرسية".

وأخيرا فتحول الداخلية إلى لاعب اقتصادي عبر ما يُعرف إعلامياً بـ"منافذ التخفيضات" ليس مجرد مبادرة اجتماعية، بل هو جزء من اقتصاد أمني يهدد السوق الحرة ويضرب مصالح آلاف التجار.
المصادرة تحت غطاء القانون تتحول إلى أداة لمد نفوذ الوزارة داخل الاقتصاد، والنتيجة اقتصاد هش يقوم على النفوذ بدلاً من المنافسة.

قد يستفيد المواطن مؤقتاً من سلعة أرخص، لكن الثمن البعيد هو سوق مشوهة، بيئة طاردة للاستثمار، وغياب الثقة بين المواطن والدولة.