تتعرض مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، لأزمة حادة في توريد القمح خلال عام 2025، وسط توترات سياسية ودبلوماسية مع أوكرانيا، ومشكلات في التوريد والاستيراد، وضعف الإنتاج المحلي، هذه الأزمة تعكس إخفاقات واضحة في إدارة ملف حيوي للأمن القومي تحت حكم قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي، وتفتح الباب لتداعيات اقتصادية واجتماعية قد تؤدي إلى تفاقم الأوضاع المعيشية للشعب المصري.

التقرير التالي يستعرض أسباب الأزمة، تطوراتها، وأهم التصريحات السياسية..

مصر تستورد سنويًا ما يقرب من 12 مليون طن من القمح لتغطية نحو 60-70% من حاجة السوق المحلية، بينما لا يتجاوَز الإنتاج المحلي من القمح حوالي 4 ملايين طن في مواسم الحصاد، بحسب تصريحات ومسؤوليات حكومية متكررة.

في 2023 و2024، شكلت روسيا الحصة الأكبر من واردات القمح لمصر، تصل نسبتها إلى 62-74%، تليها أوكرانيا بحوالي 13% في 2024، مع استيراد من دول أخرى مثل رومانيا وفرنسا وأمريكا.

هذا الاعتماد الكبير على الشحنات الروسية والأوكرانية في ظل الصراع الروسي الأوكراني الممتد جعل الأمن الغذائي المصري في موقف هش للغاية، حيث تراجعت واردات القمح المصري من أوكرانيا في 2025 بشكل حاد بسبب اتّهامات أوكرانية لحكومة الانقلاب المصرية بشراء قمح من مناطق محتلة روسيًا في أوكرانيا، وهو ما صعّد الأزمة ودفع كييف إلى تهديد إدراج مصر على "القائمة السوداء" بمجلس البرلمان، ما يعني حظر استيراد القمح بشكل قانوني من أوكرانيا مستقبلاً.

 

الأزمة الدبلوماسية المستجدة مع أوكرانيا

في ديسمبر 2024، أبرمت وكالة "مستقبل مصر" الصفقة لاستيراد مليون طن قمح روسي من مناطق تخضع لسيطرة روسيا في أوكرانيا، هذه الصفقة أشعلت غضب الحكومة الأوكرانية التي اعتبرت قيام مصر بشراء قمح من مناطق محتلة انتهاكًا للسيادة الأوكرانية وموقفًا منحازًا لموسكو.

وقع التصعيد مع مخاطبات دبلوماسية بين أوكرانيا والقاهرة، وصلت إلى تحذيرات من إدراج مصر على "القائمة السوداء" التي تمنع الكيانات المستوردة من التعامل مع أوكرانيا، ما أدى إلى تقليل واردات القمح من أوكرانيا بحوالي 1.9 مليون طن عام 2024 إلى تراجع أكبر في النصف الأول من 2025 بنحو 25%-31% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

 

تداعيات الأزمة..

في النصف الأول من 2025، انخفضت واردات القمح المصرية إلى 5.2 مليون طن مقابل 6.8 مليون طن في العام السابق، مع تراجع واردات أوكرانيا وازدياد الاعتماد على روسيا رغم ارتفاع أسعارها.

هذا العجز في التوريد الخارجي تسبب في توقع نقص يصل لنحو 10-15% في توفر الدقيق للخبز المدعوم في الأسواق، وتراكم ضغوط على الحكومة للموازنة بين رفع الإنتاج المحلي الذي يواجه تحديات وتأمين الاستيراد بأسعار مرتفعة نتيجة تراجع مصادر التوريد وارتفاع كلفة الشحن والمخاطر السياسية.

 

أسباب الأزمة الحقيقية..

تتعلق الأزمة أساساً بسياسات حكومة الانقلاب المصرية التي نُقلت إدارة استيراد القمح فيها من الهيئة العامة للسلع التموينية إلى وكالة "مستقبل مصر" التابعة للقوات الجوية، وهو تحوّل يرافقه غموض في آليات وإدراة التوريد، وتورط في عمليات شراء قمح من مناطق تخضع للاحتلال الروسي في أوكرانيا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن ضعف الإنتاج المحلي لعدة أسباب منها عزوف الفلاحين عن زراعة القمح بسبب قلة الحوافز، وارتفاع التكلفة، وضعف الدعم اللوجستي والفني، وارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج.

ورغم أن دولة الانقلاب أعلنت خططًا لزيادة الزراعة في موسم 2025 إلى نحو 3.7 مليون فدان، إلا أن الهدف المخفض للاكتفاء الذاتي من القمح إلى 51% يُظهر محدودية الجهود.

أكد صقر عبد الفتاح، وكيل لجنة الزراعة في مجلس النواب المصري، أن جهود حكومة الانقلاب لتحسين إنتاج القمح ما زالت تحتاج إلى حزمة متكاملة من الدعم الفني واللوجستي لضمان فعالية خطة توسيع الرقعة الزراعية.

نواب أحزاب مصرية، مثل حزب الحرية المصري وحزب إرادة جيل، وصفوا تدخل القوات المسلحة في ملف استيراد القمح والسيطرة على ملف التوريد بـ"مخاطر سياسية واقتصادية" غير مبررة، مؤكدين أن حكومة الانقلاب تغفل تطوير البنية التحتية الزراعية والشراكة مع صغار الفلاحين، مما يؤدي لحالة من الهدر والفساد.

كما انتقد سياسيون توجه مصر إلى التنويع على حساب الأمن الغذائي، خاصة في ظل تفاقم التوترات مع أوكرانيا، معتبرين أن ذلك يعرض البلاد لخطر حقيقي في حالة توقف توريدات القمح الأوكراني فجأة.

حاولت حكومة الانقلاب في مواجهة الأزمة، التوجه لمورّدين جدد في أوروبا مثل رومانيا وبلغاريا وفرنسا، لكنها تواجه تحديات لوجستية وأسعار مرتفعة، كما كثّفت واردات القمح من روسيا رغم التحديات السياسية، وسعت لزيادة الإنتاج المحلي بتوسيع زراعة القمح إلى 3.1 مليون فدان في 2025، واستلام 4 ملايين طن من الفلاحين، مع وعود بزيادة الاكتفاء الذاتي إلى 60% خلال السنوات القادمة.

 

الفشل المستمر يهدد الأمن الغذائي

أزمة القمح في مصر ليست مسألة واردات فقط، بل تعكس تمامًا حجم الإخفاق الحكومي في إدارة ملف الأمن الغذائي تحت حكم السيسي، من تفريط في دعم الفلاح، وسياسات استيرادية غير شفافة، وتعامل مع ملف استراتيجي بحسابات سياسية ضيقة لا تراعي استقرار حياة ملايين المصريين.

التوتر مع أوكرانيا بسبب استيراد قمح من أراضٍ محتلة روسياً يوضح مدى هشاشة السياسة الخارجية وتأثيرها المباشر على حياة المواطنين، وهو دليل آخر على أن الظروف السياسية والاقتصادية تحت حكم السيسي تسير في اتجاه معقد يصعب معه ضمان توفر رغيف العيش للمصريين بشكل مستمر، ومن المتوقع أن مصر ستواجه خلال الأشهر القادمة تحديات غذائية قد تصل إلى أزمات اجتماعية حادة، خصوصاً مع تزايد السكان وارتفاع الطلب على الغذاء.