في ظل أزمات اقتصادية خانقة وتراجع مستمر في الحريات العامة، شهدت مصر في الأشهر الأخيرة حملة اعتقالات مكثفة طالت عدداً من صُنّاع المحتوى على تطبيق "تيك توك" ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى، خاصة من فئة الشباب والبلوجرز.
لم يعد الأمر مقتصراً على ملاحقة السياسيين أو الصحفيين، بل توسع ليشمل من يصور مقاطع ترفيهية أو يعبر عن آرائه بسخرية.
فهل باتت هذه الاعتقالات وسيلة إلهاء للرأي العام، أم هي استمرار لنهج أمني يرى في كل صوت حر تهديداً يجب إسكاتُه؟
الوجه الجديد للقمع: استهداف “المؤثرين”
منذ عام 2020، شهدت مصر تصاعداً في ملاحقة البلوجرز، وخاصة على "تيك توك". من بين أبرز من تم اعتقالهم مؤخراً الشاب محمد حسام (شهير بـ "بطة") وصديقته نورا (شَهِيرة بـ "منة")، بتهمة "نشر الفجور والتحريض على الفسق"، بعد نشر مقاطع راقصة اعتبرت "خادشة للحياء العام"، رغم أنها لا تتجاوز في محتواها ما هو منتشر عالمياً.
وبحسب المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فقد تم التحقيق مع أكثر من 28 بلوجر وبلوجرية خلال العامين الأخيرين بتهم فضفاضة، أبرزها: "سوء استخدام وسائل التواصل"، "التحريض على الفجور"، و"الإساءة إلى قيم الأسرة المصرية"، في حين لم توضح السلطات تعريفاً قانونياً دقيقاً لهذه التهم، ما يفتح الباب أمام التأويلات الأمنية.
الإلهاء الممنهج..
يرى مراقبون أن هذه الحملات جزء من استراتيجية "إلهاء ممنهج" تستخدمها السلطة لتوجيه انتباه الشارع بعيداً عن التدهور الاقتصادي والسياسي، حيث شهدت مصر منذ مارس 2024 واحدة من أسوأ موجات التضخم، بلغ خلالها معدل التضخم السنوي 39.7%، وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في حين وصل سعر الدولار إلى أكثر من 56 جنيهاً في السوق السوداء.
ووفق تصريح للخبير الاقتصادي ممدوح الولي، فإن النظام يعمد إلى “تغذية الرأي العام بقضايا انصرافية مثل فيديوهات التيك توك، للتغطية على أزمات شديدة الخطورة مثل ديون البلاد التي تجاوزت 165 مليار دولار، وانهيار الخدمات الأساسية”.
من هم ولماذا اعتقلوا؟ شهادات وأسماء
لم تقتصر الاعتقالات على مشاهير "التيك توك"، بل طالت حتى صُنّاع محتوى محليين ذوي جمهور محدود، من بين الأسماء البارزة:
- حنين حسام: طالبة بكلية الآداب، اعتُقلت في 2020 بتهمة "الاتجار بالبشر"، رغم أن التهمة تعلقت بدعوتها لفتيات للانضمام لمنصة بث مباشر ترفيهية.
- مودة الأدهم: شابة تنحدر من الإسكندرية، اعتُقلت هي الأخرى بالتهمة ذاتها رغم عدم وجود أدلة مادية، وحُكم عليها بالسجن لاحقاً.
- شريف جابر: ناشط معروف بمحتواه النقدي، تعرض للمطاردة الأمنية عدة مرات، واختفى قسرياً في إحدى المناسبات قبل ظهوره من جديد بتسجيل صوتي يؤكد تعرضه للتعذيب.
وقال محامٍ حقوقي – فضّل عدم ذكر اسمه –: “هناك تعليمات شفوية من جهات سيادية بتشديد المراقبة على كل من يمتلك حساباً يتخطى عشرة آلاف متابع، أي محتوى يُعدّ ساخراً أو خارجاً عن ‘الرؤية الرسمية’ يُصنف فوراً ضمن المحتوى المحظور”.
السيسي نفسه أشار في أكثر من مناسبة إلى "خطورة الإعلام البديل"، حيث قال في أكتوبر 2022: "بعض الناس بياخدوا الكلام من مواقع التواصل كأنها قرآن"، في إشارة إلى عدم ثقته بهذه المنصات.
هذا الموقف انسحب على التوجه الأمني العام، حيث تم إنشاء وحدة لمراقبة المحتوى الرقمي داخل جهاز الأمن الوطني، تُعرف بـ"لجنة رصد التريند"، مهمتها تتبع المحتوى الرائج والتعامل معه بطرق تشمل الحجب أو الاعتقال.
وفق تقرير صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" في يوليو 2024، فإن السلطات المصرية “تعامل وسائل التواصل كتهديد وجودي، وليس كأداة تواصل، وترد بالقوة على أي استخدام ينتقد الأداء الرسمي أو يسخر منه”.
رغم الإدانات المتكررة من منظمات مثل العفو الدولية ومراسلون بلا حدود، إلا أن الصمت الدولي لا يزال سمة المشهد.
وأشارت تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في مايو 2024 إلى "القلق من أوضاع الحريات في مصر"، إلا أن المساعدات العسكرية لم تتوقف، بل تم تخصيص 1.3 مليار دولار لمصر في ميزانية 2025.
محلياً، أطلق ناشطون حملة إلكترونية بعنوان #الحرية_للبلوجرز طالبوا فيها بالإفراج عن المعتقلين، مؤكدين أن "حرية التعبير ليست جريمة، وأن النظام يستغل الإعلام الرسمي في شيطنة الشباب دون محاكمة عادلة".
ربما لم يحمل صانعو محتوى "التيك توك" رايات حزبية أو شعارات سياسية، لكنهم شكّلوا تهديداً غير مباشر لمنظومة تحاول إحكام السيطرة على كل ما يُقال أو يُصور، فالفيديو القصير، والمحتوى الساخر، وحتى الرقص، بات وسيلة للاحتجاج حين تُغلق المسارات الأخرى، وبدلاً من الإصغاء لصوت الجيل الجديد، اختارت الدولة الطريق الأسهل: الاعتقال والتشهير.