في مشهد يتكرر كل يوم أمام مراكز التأمين الصحي بمختلف محافظات مصر، يتكدس عشرات المرضى في طوابير طويلة تحت الشمس، بانتظار "فرصة علاج"، قد لا تأتي.
فمن جهة، أسعار الخدمات والأدوية ارتفعت بشكل غير مسبوق، ومن جهة أخرى، انحدر مستوى الرعاية الطبية إلى أدنى مستوياته، وسط نقص حاد في الأدوية والمستلزمات، وغياب الأطباء المتخصصين، وأجهزة متهالكة، ومواعيد انتظار تتجاوز الأشهر.
لكن ما يجعل هذه الأزمة أكثر خطورة أنها ليست أزمة عرضية أو إدارية فقط، بل هي - وفق مراقبين - نتيجة مباشرة لمسار مقصود تتبناه الحكومة منذ سنوات: خصخصة القطاع الصحي، وتسليمه تدريجيًا إلى المستثمرين الأجانب، على حساب ملايين الفقراء الذين لا يجدون بديلًا عن نظام التأمين الصحي الحكومي.
أسعار تتضاعف.. وفقراء خارج المنظومة
كانت خدمات التأمين الصحي في مصر لعقود ملاذًا للفقراء وذوي الدخول المحدودة، لكن في السنوات الأخيرة، شهدت أسعار الخدمات والأدوية زيادات متوالية وصادمة:
رسم الكشف العادي ارتفع من 5 جنيهات إلى 25 – 40 جنيهًا.
بعض التحاليل التي كانت تُجرى مجانًا أصبحت تُحمّل على المريض بنسبة تصل إلى 60% من التكلفة.
الأدوية المتوفرة ضمن "البروتوكولات" يتم استبدالها بأخرى أرخص أو غير فعّالة، أو يُطلب من المريض شراؤها من الخارج.
الخدمات الجراحية تتطلب انتظارًا يصل إلى 6 أشهر، أو دفع مبالغ إضافية لتسريع الإجراءات.
يقول أحد المرضى من الجيزة:
"أنا صاحب تأمين صحي من 20 سنة، لكن لما طلبوا مني تحليل رنين مغناطيسي قالولي روح اعمله بره، التكلفة 1300 جنيه، وأنا معاشي كله 1800!".
الخدمات تنهار: نقص في الأطباء والمعدات
أحد أبرز مظاهر الانهيار يتمثل في نقص الكوادر الطبية داخل منشآت التأمين. حيث تشير تقارير نقابة الأطباء إلى:
تسرب آلاف الأطباء من القطاع العام إلى القطاع الخاص أو الخارج.
تدنّي الرواتب، وسوء بيئة العمل، وانعدام الحوافز.
بعض الوحدات الصحية لا يعمل بها سوى طبيب واحد لكل 10 آلاف مريض.
أما الأجهزة والمعدات، فالكثير منها متهالك، لا يعمل، أو غير متوفر أصلًا، مثل:
أجهزة الأشعة المقطعية والرنين.
الحضّانات وغرف العناية المركزة.
أجهزة التحاليل الدقيقة.
هذا النقص أدى إلى وفاة بعض الحالات بسبب تأخر العلاج أو سوء التشخيص، كما حدث في قضية الطفل "زياد" الذي تُوفي نتيجة تأخر علاجه بأحد مراكز التأمين في القاهرة.
أزمة الأدوية: رفوف فارغة وبدائل رديئة
أزمة الدواء في مصر تتفاقم عامًا بعد عام، ويشعر بها أكثر من يعتمدون على التأمين الصحي. فالصيدليات التابعة للتأمين أصبحت:
خاوية من الأدوية الحيوية مثل أدوية الضغط، القلب، والسكري.
تصرف بدائل رخيصة لا تحقق نفس الفعالية العلاجية.
ترفض صرف أدوية "بروتوكولات علاج الأورام" أو الأمراض المزمنة، بحجة "عدم التوافر أو توقف التوريد".
بعض المرضى أُجبروا على شراء أدوية من الخارج بأسعار مضاعفة أو اللجوء إلى الجمعيات الخيرية للحصول على علاج.
الخصخصة الخفية: بيع الصحة للمستثمر الأجنبي
في خلفية هذا المشهد الكارثي، تدفع الحكومة بمسار خصخصة ممنهجة للقطاع الصحي، عبر:
1. قانون التأمين الصحي الشامل: والذي فُرض في 2018، لكن جرى تطبيقه تدريجيًا في محافظات مختارة، ويعتمد على شركات خاصة لإدارة الخدمات.
2. طرح مستشفيات ووحدات صحية للشراكة مع المستثمرين: مثل ما حدث في بعض منشآت وزارة الصحة التي أُعيد تشغيلها بواسطة شركات إماراتية وسعودية.
3. بيع حصص من شركات الأدوية الكبرى التابعة للدولة ضمن برنامج الطروحات الحكومية.
4. إعفاءات ضريبية هائلة للمستشفيات الاستثمارية الخاصة، التي تخدم الطبقات العليا فقط.
يقول خبير السياسات الصحية، الدكتور أحمد حسين:
"الدولة ترفع يدها تدريجيًا عن الصحة كمرفق عام، وتحوّل المريض المصري إلى سلعة. من يستطيع الدفع يتعالج، ومن لا يملك يُترك لمصيره".
من يدفع الثمن؟
موظفو الحكومة وأصحاب المعاشات: رغم اقتطاع التأمين شهريًا من رواتبهم، إلا أن الخدمة التي يحصلون عليها لا توازي شيئًا.
المرضى المزمنون: من مرضى السكر والضغط والكُلى والأورام، يجدون أنفسهم في مواجهة خيارين: الموت أو الديون.
المرأة والطفل: خدمات تنظيم الأسرة، الأمومة، وتطعيم الأطفال تدهورت داخل التأمين.
الطب النفسي والتأهيل: شبه غائبة عن مظلة التأمين، رغم ارتفاع الطلب بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة.
أرقام تكشف الفشل
وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن إنفاق الفرد المصري على الصحة ارتفع بنسبة 70% خلال 3 سنوات.
في حين أن موازنة الصحة كنسبة من الناتج المحلي لا تتجاوز 1.5%، وهو أقل بكثير من النسبة الموصى بها عالميًا (5%).
أصوات من الداخل: الأطباء غاضبون
يقول طبيب شاب يعمل في التأمين الصحي بأسيوط:
"نحن نعمل بأدوات غير آدمية، نواجه مئات المرضى يوميًا، بلا دعم نفسي ولا أدوات كافية، ويتم تحميلنا مسؤولية الانهيار الكامل للمنظومة".
وقد دعت نقابة الأطباء مؤخرًا إلى مراجعة سياسات التمويل والتشغيل في التأمين الصحي، ووقف الخصخصة، ورفع أجور الأطباء، وتحسين بيئة العمل.
الخطر الأكبر: التمهيد لإنهاء التأمين الحكومي نهائيًا؟
يرى مراقبون أن ما يحدث من تدهور مقصود في خدمات التأمين الصحي هو استراتيجية تمهيدية لتقويضه بالكامل، وإجبار المواطنين على:
التوجه نحو شركات التأمين الخاصة.
أو شراء باقات علاجية من المستشفيات الاستثمارية.
أو الاكتتاب في نظام "التأمين الصحي الشامل" بأقساط مرتفعة، رغم أنه ما زال محدود التغطية ولا يشمل معظم المحافظات.
صحة المواطن ليست سلعة
بينما تعج شاشات الإعلام الحكومي بشعارات "جمهورية جديدة" و"حياة كريمة"، يُترك المواطن البسيط يواجه المرض منفردًا، في ظل تراجع الدولة عن التزاماتها الدستورية بتوفير الرعاية الصحية الشاملة والعادلة.
إن خصخصة الصحة، وتحويل العلاج إلى "خدمة تجارية"، هو انسحاب واضح للدولة من مسؤولياتها الاجتماعية، ويهدد ليس فقط أمن المصريين الصحي، بل تماسكهم الاجتماعي وكرامتهم الإنسانية.