"أراضي الأوقاف ليست للبيع، وما يحدث هو استثمار لتعظيم الاستفادة منها".. بهذه العبارة حاول الدكتور أسامة الأزهري، أحد الوجوه الدينية المقرّبة من السلطة، تبرير ما وصفه المتابعون بـ"السطو الرسمي على أملاك الوقف الإسلامي"، والتي تُعدّ من أعظم المؤسسات التي كانت تدعم الفقراء والعلم والتعليم لقرون في مصر.
لكن خلف هذه العبارة اللغوية المنمّقة، تلوح خطة ممنهجة يقودها النظام لبيع أراضي وعقارات الأوقاف تحت ستار الاستثمار، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، وعجز مزمن في الموازنة، وتهاوٍ غير مسبوق في قيمة الجنيه، ما دفع النظام للبحث عن أي مورد نقدي، ولو كان من أموال الله.
الأزهري يجمّل الكارثة.. والنظام يبيع ما لا يملك
كثيرون اعتبروا أن تصريحات أسامة الأزهري الأخيرة لا تعكس فقط تبنّيه وجهة نظر النظام، بل توظيفه كصوت ديني لتبرير مشروع تجريف التراث الوقفي. فحين يقول الأزهري إن ما يجري "استثمار" وليس "بيعًا"، فإنه يغضّ الطرف عمدًا عن سلسلة قرارات حكومية تُهيئ الأرض قانونيًا وواقعيًا للتصرف الكامل في أعيان الوقف، من خلال ما يلي:
تعديل القوانين الخاصة بالوقف بما يسمح بالتأجير طويل الأجل، وتمليك بعض الحالات.
إشراف جهات سيادية مباشرة على أراضي الأوقاف من خلال لجنة استرداد أراضي الدولة.
طرح العديد من العقارات الوقفية للبيع عبر مزادات علنية أو ما يسمى بـ"حق الانتفاع لـ50 عامًا".
نزع اختصاص وزارة الأوقاف التقليدي وإدخال جهات اقتصادية وأمنية في إدارة الأملاك.
فهل هذا استثمار أم تفكيك لملكية المصريين لصالح رجال الأعمال؟
الأوقاف: مؤسسة إسلامية صمام أمان الفقراء
من المهم التذكير بأن الوقف الإسلامي، منذ عهد عمر بن الخطاب، تأسس على مبدأ حبس الأصل وتسبيل المنفعة. أي أن أصل الوقف لا يُباع ولا يُؤجّر بطريقة تُفقده ملكيته، بل يبقى محفوظًا للأجيال، فيما تُوجّه منافعه لمصارف الخير، سواء كانت:
كفالة الأيتام.
رعاية الأرامل.
الإنفاق على طلاب العلم.
بناء المدارس والجامعات.
إقامة المشافي.
لكن ما يجري اليوم هو تفريغ الوقف من مضمونه التاريخي والديني، وتحويله إلى مجرد أداة تجارية مربحة تخضع لحسابات السوق ورجال السلطة، بل وغسيل الأموال أحيانًا.
قرارات خطيرة في السنوات الأخيرة
خلال السنوات الماضية، اتخذت الحكومة المصرية عدة خطوات تمهد لبيع أراضي الوقف، نذكر منها:
قرار رئيس الوزراء في 2021 بتشكيل لجنة لحصر وتقييم أراضي وممتلكات الأوقاف، بمشاركة الجيش وهيئات سيادية، بزعم "استعادة الأصول المهملة".
دمج أموال الأوقاف في صندوق سيادي تحت بند "تعظيم العائد"، ما يعني إخضاع أموال الوقف لإدارة غير شرعية دينيًا، وإمكانية تسييلها أو بيعها.
طرح عشرات العقارات الوقفية في القاهرة والإسكندرية والجيزة للبيع بمزادات علنية، كان من بينها مدارس، وحمامات تاريخية، وأراضٍ زراعية.
نزع آلاف الأفدنة من أهالي النوبة، والفيوم، وسيناء بحجة "ملكية الدولة الوقفية"، ومن ثم عرضها ضمن مشروعات جديدة!
كل هذا وسط صمت المؤسسة الدينية الرسمية، وتبرير شخصيات كـ"أسامة الأزهري" لما يجري بأنه مجرد استثمار "لوجه الله".
ما الفرق بين البيع والاستثمار إذا خُسرت الأعيان للأبد؟
ما يتجاهله الأزهري في تصريحه هو أن الاستثمار طويل الأجل في عرف الدولة يعني فعليًا تمليكًا مؤجلًا. فعندما يتم تأجير عقار وقفي لمستثمر أو مؤسسة خاصة لمدة 50 سنة، ثم يُسمح له بالبناء عليه أو تحويله إلى مجمع تجاري، فإن الوقف هنا فُقد للأبد، لأن:
مدة الإيجار تُساوي عمر جيل كامل.
يحق للمستثمر بيع المشروع لاحقًا مع الأرض بحق الانتفاع.
تدخل أملاك الوقف في الرهون البنكية للمشروعات الكبرى.
لا تُستخدم العوائد في الأغراض الخيرية بل في موازنة الدولة.
لماذا الآن؟ الإجابة: الدولة مفلسة
الأسباب الاقتصادية واضحة:
الدين العام تجاوز 170 مليار دولار.
عجز الموازنة فوق 7%.
الجنيه فقد أكثر من 70% من قيمته خلال عامين.
احتياطي النقد الأجنبي يعاني.
الحكومة تبحث عن موارد سريعة عبر خصخصة ما تبقى من ممتلكات الشعب: من قناة السويس إلى الفنادق إلى الأراضي.
ومع غلق أبواب القروض الدولية، اتجهت الأنظار إلى أراضي الوقف، كمصدر "خامس" للثروة غير المُعلنة. وهذا ما يفسر تسريع الخطى نحو السيطرة عليها بأي طريقة، حتى لو استدعى الأمر غطاءً شرعيًا على لسان "علماء السلطان".
أسامة الأزهري: شيخ الدولة بوجه الدولة
تصريحات الأزهري لم تكن مفاجئة لمن تابع مسيرته. فهو أبرز الوجوه التي تقدمها السلطة لتجميل قراراتها القمعية أو الاقتصادية، بدءًا من تبرير اعتقال المعارضين، مرورا بدعم "مفهوم الطاعة" والولاء للحاكم، وصولًا إلى دعم مشاريع مثل "صندوق تحيا مصر" و"صكوك الدولة".
ومؤخرًا، تم الدفع به لتبرير ما لا يمكن تبريره: التصرف في أملاك الله والناس، عبر تحويل أموال الوقف إلى مشاريع "استثمارية"، دون رقابة شرعية حقيقية، ودون توضيح لمصارف العائد، وبلا أي ضمانات لعدم البيع النهائي.
العلماء الصامتون.. والدولة تسرق في وضح النهار
المؤسف أن غالبية العلماء الصادقين إما صامتون أو مغيّبون أو مطاردون، بينما تُحتكر المنابر من قبل شخصيات كالأزهري، تقول ما يُطلب منها، وتُسوّق للخطر تحت غطاء "الإصلاح".
فمن الذي فوّض الدولة بالتصرف في أملاك الوقف؟
وأين رقابة الأزهر الشريف؟
وأين مواقف هيئة كبار العلماء؟
وهل يجوز شرعًا أن تُدار أملاك الله بمنطق السوق والعرض والطلب؟
الوقف خط أحمر.. ومَن يفرّط فيه يخون الأمة
إن محاولة تسويق بيع أراضي الوقف تحت شعار الاستثمار ليست سوى خداع لفظي يُراد به التمهيد لبيع ما لا يجوز بيعه، ومصادرة حق الأجيال القادمة في مواردهم.
وأمام هذا الانحدار، يجب أن يُقال بوضوح:
الوقف الإسلامي ليس أداة في يد السلطة تسد بها فشلها الاقتصادي.
من يُبرر ذلك من رجال الدين شريك في الجريمة.
الشعب المصري لن يسكت طويلاً على بيع تاريخه ومقدّراته باسم "الاستثمار".
الوقف أمانة في رقاب العلماء والدعاة وكل الأحرار. وإن الصمت عن ما يجري، هو تواطؤ في أكبر عملية نهب رسمي لأموال الفقراء في تاريخ مصر الحديث.