لقي عامل مصرعه وأُصيب ثلاثة آخرون بحالات اختناق داخل مصنع "غزل 1" التابع لشركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى (غزل المحلة)، وذلك أمس الثلاثاء، وسط ظروف وصفتها مصادر عمالية من داخل الشركة بـ"الملتبسة"، وتعتيم رسمي أثار انتقادات واسعة.
مأساة في قلب المصنع الجديد
الواقعة التي هزت المجتمع العمالي بالمحلة الكبرى، وقعت داخل مصنع "غزل 1" الذي افتتحه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي قبل أقل من عام في ديسمبر 2024، وسط احتفاء إعلامي بكونه "أكبر مصنع غزل في العالم من حيث عدد المرادن تحت سقف واحد". المصنع المشيّد على مساحة 62 ألف متر مربع، والمخصص لتصدير الخيوط الرفيعة من الأقطان المصرية فائقة الطول، تحول إلى مسرح لفاجعة راح ضحيتها الشاب مصطفى الكيلاني، فيما نقل ثلاثة من زملائه إلى المستشفى وهم في حالة اختناق حادة.
مصدر عمالي داخل الشركة، طلب عدم الكشف عن هويته، قال إن العمال الأربعة شعروا بـ"ضيق شديد في التنفس واختناق أثناء تأدية عملهم في قسم التشغيل"، مرجحًا أن تكون "الرطوبة العالية وسوء التهوية" وراء ما حدث. وأضاف أن الحادث أثار "حالة من الذعر بين زملائهم، خاصة أن غالبيتهم من المعينين الجدد عبر شركات توظيف خاصة تعمل بنظام التشغيل من الباطن".
بيان محذوف وإدارة "تتملص"
إدارة شركة غزل المحلة سارعت إلى نشر بيان رسمي عبر صفحة العلاقات العامة على "فيسبوك"، لكنها سرعان ما قامت بحذفه، وهو ما أثار مزيدًا من التساؤلات. البيان المحذوف أرجع الوفاة إلى "توقف مفاجئ بعضلة القلب"، مؤكدًا أن زملاءه الثلاثة أصيبوا بـ"حالة من الهلع أدت إلى هبوط ضغط الدم"، وتم نقلهم لتلقي الإسعافات قبل أن يغادروا المستشفى في حالة مستقرة.
لكن المصدر العمالي اعتبر البيان "استخفافًا بالعقول واستباقًا للتحقيقات"، مشددًا على أنه محاولة واضحة من الإدارة لـ"التنصل من أية مسؤولية قانونية تتعلق بسلامة بيئة العمل داخل المصنع الجديد".
شركات الباطن: الخصخصة المقنّعة
وفقًا لبيانات لجنة الحريات النقابية، فإن الضحايا الأربعة جميعهم من العمال المعينين حديثًا عن طريق شركة توظيف من الباطن، وهو نمط تعاقدي يتزايد انتشاره داخل قطاع الغزل والنسيج الحكومي، حيث يحصل هؤلاء على رواتب تقل عن الحد الأدنى للأجور المعلن (7 آلاف جنيه شهريًا)، دون تمتعهم بالضمانات الكاملة المتعلقة بالتأمين الصحي، التعويضات، أو حتى شروط السلامة المهنية.
اللجنة، التي تضم دار الخدمات النقابية، واتحاد "تضامن" النقابي، وعددًا من ممثلي العمال في أحزاب سياسية، وصفت هذا النظام بأنه "خصخصة مقنّعة للوظائف العامة"، و"باب خلفي للتلاعب بمصائر آلاف العمال عبر التهرب من المسؤولية القانونية والإدارية".
حوادث متكررة بلا محاسبة
الحادث الأخير لم يكن الأول من نوعه داخل شركة غزل المحلة خلال الأشهر الماضية. ففي فبراير الماضي، لقي ثلاثة عمال مصرعهم وأُصيب آخر إثر انفجار خزان مياه بمحطة الكهرباء القديمة داخل الشركة. يومها، أصدرت الإدارة بيانًا أكدت فيه أن الحادث "محدود"، نافية وقوع خسائر جسيمة أو تعطّل في الإنتاج.
كما سبق أن شهدت مناطق أخرى في مصر حوادث مشابهة، منها انفجار سنترال رمسيس أثناء أعمال صيانة، بالإضافة إلى سلسلة من الحوادث المرورية التي طالت عمالًا في طريقهم إلى أعمالهم على متن وسائل نقل تفتقر لأدنى درجات الأمان.
مطالبات بالتحقيق والمحاسبة
دار الخدمات النقابية والعمالية أصدرت بيانًا تنعى فيه العامل الراحل مصطفى الكيلاني، واعتبرت أن الحادث "جزء من سلسلة كارثية تعكس الإهمال المزمن في تطبيق اشتراطات السلامة المهنية"، وتدل على "غياب تام للمحاسبة والردع"، خاصة في ظل التوسع في عقود التوظيف المؤقتة والمقاولات من الباطن.
الدار طالبت بفتح تحقيق شفاف ومستقل في الحادث، وكشف نتائج التحقيقات في حادث انفجار محطة الكهرباء السابقة، إلى جانب محاسبة كل من يثبت تقصيره أو مسؤوليته، مؤكدة أن "استمرار نمط التشغيل بالباطن يعمق أزمة حقوق العمال ويفتح المجال لمزيد من الضحايا".
مخاوف تتجدّد
في تطور لاحق للواقعة، أكد مصدر من داخل الشركة إصابة عاملَين إضافيين بحالات مشابهة من ضيق التنفس ظهر اليوم ذاته، ما دفع عددًا من زملائهم إلى مغادرة المصنع في حالة هلع، خوفًا من تكرار الحادث، وهو ما يكشف عمق الأزمة المرتبطة ببيئة العمل داخل المنشأة الجديدة.
ورغم أن المصنع أُنشئ ليكون نموذجًا للتطوير والتحديث الصناعي في مصر، إلا أن ما يحدث داخله بات يطرح تساؤلات جوهرية حول جدوى "التحديث المظهري" إذا لم يكن مصحوبًا بضمانات حقيقية لحقوق الإنسان العامل، وسلامته، وكرامته.